ما زلت مصراً على التغيير الجذري في نظام الحكم في السودان.. كتبت مقالات كثيرة في هذا الإتجاه، وسوف أواصل لأني أرى ما لا يراه الكثيرون.. النظام البرلماني الذي نسير فيه عقب كل ثورة شعبية يقود إلى إحياء الدائرة الخبيثة في الحكم- حكم برلماني، انقلاب عسكري، فترة انتقالية حكم ديمقراطي قصير بعد انتخابات مشوهة، ثم انقلاب عسكري وحكم شمولي طويل.
النظام الرئاسي الذي أدعو له مختلف تماماً عن تجارب الحكم الرئاسي السيئة التي أصبحت غصة في حلق كل ثائر ومواطن ينشد الحرية والعدل والمساواة، لذلك فبمجرد ذكر حكم رئاسي تقفز إلى الأذهان تلك الصور البغيضة للتجارب المريرة التي عاشها المواطنون إبان الحكم الرئاسي الدكتاتوري الشامل، لذلك يرفض الكثيرون مجرد التفكير في حكم رئاسي، كأنما الديمقراطية والحرية لا يمكن التمتع بهما إلا في ظل حكم برلماني.
الحكم الرئاسي المرفوض أتى في السودان عقب الانقلابات العسكرية الثلاثة: انقلاب 17 نوفمبر 1958 بدأ بحكم عسكري في مجلس سمي المجلس الأعلى للقوات المسلحة، برئاسة الفريق عبود، وانتهى برئاسة فردية بواسطة الفريق عبود، عندما حلّ المجلس الأعلى للقوات المسلحة وظل كذلك لفترة شهور، حتى تم تكوين حكومة انتقالية برلمانية برئاسة سر الختم الخليفة.. انقلاب مايو 1969 تم فيه تكوين مجلس عسكري سُمي مجلس قيادة الثورة برئاسة العقيد جعفر نميري، سرعان ما تحول إلى نظام رئاسي شمولي دكتاتوري بواسطة نميري الذي حلّ مجلس قيادة الثورة، وأجرى استفتاء صورياً في 1972 عقب إحباط انقلاب الرائد هاشم العطا.
حكم نميري حكماً أمنياً دكتاتورياً قاسياً، حتى تمت الإطاحة به في ثورة أبريل 1985 النقابية، عقب إضراب سياسي شامل وناجح.. انقلاب 30 يونيو 1989 كان بواسطة الحركة الإسلامية، بدأ بمجلس عسكري برئاسة العميد عمر حسن البشير، وكان حكم المجلس العسكري صورياً، الحكم الفعلي حتى 1999 كان حكم الحركة الإسلامية ومجلسها الأربعيني برئاسة د. حسن الترابي، بعد المفاصلة الشهيرة بين البشير والترابي عام 1999، أصبح البشير رئيساً في حكم رئاسي بعد انتخابات عديدة غير نزيهة.
حكم البشير الرئاسي وقبله حكم الحركة الإسلامية اتسم بالقسوة والتعذيب والقتل والاعتقالات والفساد غير المسبوق، مما أدى إلى الثورة الشعبية المجيدة الفريدة في ديسمبر 2018، حتى سقوط البشير في 11 أبريل 2019، عقب اعتصام تاريخي لملايين الثوار أمام مقر القيادة العامة للجيش.
منذ 11 أبريل 2019 حتى الآن السودان في فترة انتقالية هشة، تتجاذبها الرياح الخارجية والداخلية والمطامع الشخصية والمؤامرات الدولية والإقليمية، فترة انتقالية فيها الحكم برلماني برئاسة د. حمدوك، وهو مسلوب الإرادة لا يملك كل خيوط الحكم المدني البرلماني، إذ أن الخيوط المهمة المؤثرة بيد المكون العسكري الذي يمتّع نفسه بالدهشة من خروج بعض الثوار ولجان المقاومة على الحكم المدني البرلماني، وتهافت مكونات شركاء التغيير على توزيع كيكة السلطة، خاصة بعد وصول مجموعات الكفاح المسلح عقب توقيع اتفاق جوبا للسلام في 3 أكتوبر ،2020 و(الساقية لسه مدورة) في اتجاه العودة إلى الحكم العسكري الشامل.
هذه الصور الثلاث من الحكم العسكري والرئاسة الفردية بعد حين جعلت الكثيرين يرفضون مجرد التفكير في حكم رئاسي- الحكم الرئاسي الذي أدعو له حكم رئاسي ديمقراطي، تضع دستوره مكونات الثورة الشعبية الناجحة، وتشرف على وضع قانون انتخابات للرئاسة والبرلمان، ودستور يمنح الرئيس صلاحيات واسعة، لكنها مقيدة بضوابط تجعل البرلمان قادر على محاسبة الرئيس وحتى إقالته، كما في النظام الديمقراطي الرئاسي الأمريكي، والذي نجح لأكثر من (200) عام في جعل أمريكا اليوم أقوى دولة اقتصادياً وتقنياً وعسكرياً.. دستور يحقق شعارات كل الثوار (حرية، سلام وعدالة)- دستور يكمل شكل الحكم لشموله مواداً تتيح إنشاء قوانين لتكوين نقابات مهنية قوية، تقوم بتكملة الجهاز التشريعي في دور رقابة شعبية مؤثرة، تحد من جنوح الرئيس المنتخب في أي لحظة، وسلاحها الإضراب والتظاهر والاعتصام المحمي بالدستور.
ويكتمل الحكم الرئاسي أيضاً بنظام فدرالي في (6) أقاليم كبرى، بصلاحيات واسعة في إدارة الإقليم بواسطة حاكم وحكومة ومجلس تشريعي، كلها منتخبة مباشرة من مواطني الإقليم.. يتيح الدستور الرئاسي لكل إقليم إدارة شئونه بحرية كاملة في النواحي الآتية:
- إدارة الإقليم أمنياً بواسطة شرطة الإقليم المستقلة.
- استغلال موارد الإقليم واستثمارها بواسطة مواطنين سودانيين أو أجانب، مع الإلتزام بدفع نسبة محددة للمركز.
-الإشراف على الخدمات مثل التعليم والصحة والكهرباء والمياه وغيرها.
وبالتالي يكون للحكم الإتحادي وزارات قليلة لا تتعدى العشر، وتكون الوزارات الاتحادية هي الخارجية، المالية، النقل، الاتصالات، الدفاع، الري والطاقة الكهربائية، الزراعة، الثروة الحيوانية، النفط والمعادن، ووزارة رئاسة الجمهورية، يتلازم ذلك مع تحديد هذه الوزارات العشر لتكوين أجهزة مستقلة تتبع لرئيس الجمهورية هي: القوات المسلحة القومية، بنك السودان، الأمن والاستخبارات، الشرطة الفدرالية التي تتمتع بحرية الحركة في كل أقاليم السودان.
النظام الرئاسي يقلل من حدة كثرة الأحزاب السياسية والنزاعات والنعرات القبلية أو الجهوية، إذ أن محدودية مرشحي الرئاسة (اثنين أو ثلاثة) يفرض على الأحزاب العديدة والتجمعات القبلية والجهوية تكوين تكتلات قليلة مساندة لكل مرشح، كما يحدث في إسرائيل وأمريكا وفرنسا وألمانيا، ويترك تلك الحدة في انتخابات البرلمان، الذي سيكون قوياً من عناصر واعية يضمن عدم جنوح الرئيس المنتخب إلى تلبية المطامع الشخصية.
تجربة الحكم البرلماني في السودان بكل المقاييس فاشلة منذ الإستقلال، ولا تتناسب مع طبيعة وتركيبة شعب السودان، بينما النظام الرئاسي المقيد والمحروس من برلمان قوي ونقابات مهنية واعية هو الأنسب والأمثل.