عرف السودانيون الغناء نهاية عشرينات القرن الـ20، من خلال أغنيات الحقيبة التي ركزت كلماتها على جمال المرأة، لكن سرعان ما برز هذا الفن كواحد من أسلحة النضال ضد الاحتلال البريطاني، وتحرير المرأة السودانية، ثم شق طريقه في وجدان الشعب السوداني، ليسهم في تفعيل حركة التواصل بين مختلف مكونات المجتمع، مما أثر في تعميق الترابط بين القبائل السودانية، والتعريف بالسودان وإنسانه خارجياً.
يوضح الباحث السوداني في مجال الأغنية السودانية معاوية ياسين، أن “الأغنية السودانية ظلت قيد الوجود على مر الحقب التاريخية للسودان، الذي نعرف أنه بلد عجوز، وقد يكون أحد أول الحضارات الإنسانية في العصور العابرة. غير أن تاريخ الغناء السوداني بدأ تدوينه بعد اختراع الفونوغراف والأسطوانة، خصوصاً خلال الفترة من عام 1927، حيث نشأ ما يعرف بـ “أغنية الحقيبة”، وهي تمثل امتداداً وتطويراً طفيفاً لما سبقها من غناء. وفيما تشابهت ألحان كثير من الأغنيات، برز خلال هذه الحقبة صوت الشعر الغنائي، حيث انعكس تأثير التعليم القرآني، واطلاع الشعراء على أمهات كتب الأدب والتاريخ العربي. واكتسى شعر الحقيبة بمسحة بدوية ترسم صوراً زاهية لحياة بادية السودان، وتطور الحياة الريفية- المدنية في أم درمان، التي كانت موطن غالبية شعراء الحقيبة. وانصرف عدد من شعراء الحقيبة لوصف جمال المرأة، بدرجة تصل إلى الحسية في أحيان كثيرة”.
وأضاف، “بعد افتتاح الإذاعة السودانية في عام 1940 ظهرت الأغنية المعاصرة، التي واكبها إدخال الآلات الموسيقية الغربية، كالكمان والأكورديون والفلوت. وبدأت تظهر اتجاهات المؤلفين الموسيقيين. كما سمت نظرات الشعراء إلى مصاف العناية بالقضايا الوطنية، وعلى رأسها النضال ضد الاستعمار البريطاني، والدعوة إلى الاستقلال، وتحرير المرأة السودانية. وفي منتصف خمسينيات القرن العشرين ازدهر الغناء السوداني حتى أصبح ذلك العقد يسمى العصر الذهبي للغناء، خصوصاً بعد بروز مدارس فنية سامقة، تمثلت في أصوات الفنانين حسن عطية وأحمد المصطفى والتاج مصطفى وإبراهيم الكاشف وعبد الحميد يوسف وغيرهم. ووجد الغناء دفعة قوية بعد افتتاح معهد الموسيقى والمسرح السوداني في عام 1969. وتخرجت أجيال من الموسيقيين والمطربين الذين عززوا مدارس التأليف والتلحين والأداء الغنائي”.
السلم الخماسي
ولفت ياسين إلى أنه اعتباراً من نهاية ستينيات القرن الماضي بدأ يبرز تيار الشعر الهادف لتوظيف الغناء للقضايا السياسية والاجتماعية، كمقاومة الأنظمة العسكرية، والدعوة لتسهيل الزواج. وظهر أيضاً أثر الصراع الفكري حول هوية السودان، والعروبة والأفريقانية من خلال ما تغنى به كبار فناني السودان لشعراء ما يسمى بمدرسة الغابة والصحراء، الداعين إلى المزج بين عنصر العروبة (الصحراء) والأفريقانية (الغابة). مشيراً إلى أن للفنانين السودانيين مساهمات خارجية كبيرة بدأت منذ الحرب العالمية الثانية، حين استعان البريطانيون بالمطربين السودانيين للترفيه عن القوات السودانية في ليبيا وإريتريا، إبان المعارك ضد قوات المحور الألماني- الإيطالي. كما أن انتشار مجموعات الطلاب السودانيين في جامعات الغرب ودول المعسكر الشرقي سابقاً أدى إلى دعوة عدد كبير من المطربين والموسيقيين السودانيين للمشاركة في احتفالات في تلك البلدان.
وقال الباحث في الغناء السوداني: “أما على الصعيد العربي فعلى الرغم من محاولات الفنانين السودانيين خلق تواصل مع جماهير المستمعين العرب، إلا أن الطبيعة الخاصة بالسلم الخماسي السائد في السودان لا تزال تمثل حاجزاً يحول دون تفاعل كبير بين السودانيين والعرب. وباستثناء ما كانت تنقله السينما المصرية من أفلام لكبار الفنانين المصريين، فإن الموسيقى السباعية العربية لا تجد قبولاً كبيراً في السودان. وحتى في الجيوب التي تنتشر فيها موسيقى ذات طابع عربي في السودان، خصوصاً في منطقة كردفان ودارفور؛ فهي أقرب إلى موسيقى وغناء جنوب الجزيرة العربية منها إلى الشرق العربي. وجرت محاولات لم تتوقف منذ عقود لإيجاد رابط قوي بين الموسيقى العربية والسودانية، لكن الفطرة الموسيقية السودانية على الموسيقى الخماسية تتقبل الموسيقى الشرقية ببطء شديد، وتميزت الموسيقى السودانية بدورها الانعكاسي في تعدد قبائل السودان ولهجاته ولغاته على الشخصية السودانية المتسامحة، والمرحِّبة بالغرباء، والقادرة على التعايش مع الآخرين.
أنماط غنائية
يشير المطرب السوداني عبدالقادر سالم، إلى أن الأغنية في السودان تمارس في القرى والسهول والوديان والجبال والصحارى، حيث تعبر وتوثق لحياة المواطن، وتتناول في نصوصها صفات الشعب السوداني المعروفة للجميع من شجاعة وكرم وغيرها، كما نجد في ألحان تلك الأغنيات التنوع الإيقاعي واللحني من خلال الميول المسيطرعلى اللحن مصاحباً اللآلات الموسيقية المصنعة من مواد بئية المنطقة في العديد من الأغنيات، لكن لم يلتفت المجتمع والإعلام السوداني لإبداع الغناء التقليدي في السودان، إلا في منتصف خمسينيات القرن الماضي، على رغم انتباه المستعمر له بعد سقوط دولة المهدية مع نهاية القرن العشرين، حيث تم استخدام بعض الأغنيات التقليدية الحماسية، في شكل مارشات عسكرية يمشي الجنود على إيقاع نغماتها الحماسية، وفي ستينيات القرن العشرين ومن خلال برامج الإذاعة القومية السودانية تعرف السودانيون إلى الغناء بمصاحبة آلة الطمبور القادم من شمال السودان بقيادة الفنان المبدع النعام آدم، بجانب التعرف والاستمتاع بآلة الباسنكوب الشبيهة بآلة طمبور الشمال، حيث ردد الشعب مع المغني آدم شاش (فنجان جبنه بشمالو… يسوى الدنيا بحالو)، وهنا نجد اختلاف في الأداء اللحني، ففي الأولى نجد اللحن بني على ايقاع الدليب في منظومة لحنية خماسية خالية من نصف البعد اللحني، وفي الثانية نجد نصف البعد اللحني، والذي لا نجد له مثيلاً إلا في أغنيات بعض القبائل من رعاة الأبقار بدارفور وكرفان والذين يعتبرون من القبائل التي هاجرت لتلك المنطقة بعد سقوط دولة الأندلس في الرابع عشر الميلادي”.
يتابع سالم: “أخيراً زاد الاهتمام بالأغنية التقليدية، وبرزت أغنية آلة أم كيكي الشبيهة لآلة الرباب العربي، والتي تعزف بالقوس، بجانب أغنيات المردوم من كرفان التي بني بعضها على نظام نغمي سباعي، وأغنيات الجراري المؤلفة من قبل الفتيات، والتي تأتي في شكل مربعات شعرية سليمة الوزن الشعري، وكذلك جاءت من دارفور أنماط غنائية مثل الكاتم والسنجك والشوراب والمنقرضة وغناء الحكامات، وقد ساهم مطربو كردفان ودارفور بتقديم الكثير مما ذكر من أنماط في أغنياتهم، مما ساعد في إثراء الأغنية السودانية، بتقديم أنماط غير معروفة وجدت القبول، بالداخل والخارج، وقد قلد مطربون من بلاد مختلفة أغنيات عمر إحساس وعبد القادر سالم”.
وأشار المطرب السوداني إلى أن “اللجوء للتراث الموسيقي الغنائي أمر هام، إذ يمكنه رفد الأغنية السودانية بالألحان والإيقاعات الجديدة، وما زال هناك إيقاع الكلش من الانقسنا، وإيقاع الكرنق من جبال النوبة، وإيقاعات أخرى من مختلف السودان، وآلات موسيقية من الضروري التعامل معها لإثراء الأغنية السودانية الحديثة، ومعروف أن إيقاع الدلوكة المستخدم في الأغنية السودانية الحديثة مستمد من إيقاعات الجابودي، والجراري الموسيقي، وهي إيقاعات تقليدية لرعاة الإبل في السودان، كما أن إيقاع التمتم مستمد من تصفيق مؤدي الطنبور المصاحب بالكرير، بالتالي ظل ثراء وتنوع الأداء الغنائي الموسيقي التقليدي داعماً للأغنية السودانية الحديثة، وعلينا بذل الجهود للتعامل مع غنائنا التقليدي الحديث، والقديم الذي أصبح تراثاً”.
أشواق الشعب
في المقابل يعتقد الناقد والباحث في التراث السوداني الزبير سعيد، أن ظهور الأغنية السودانية بشكلها الحديث يعود نسبياً إلى ثلاثينيات القرن الماضي، ومن ثم تطورت سريعاً حتى وصلت قمة الازدهار في منتصف الخمسينيات من القرن نفسه، حيث ارتبطت بالحركة الوطنية وأشواق الشعب في الاستقلال من الاحتلال البريطاني.، لكن بشكل عام ظلت حركة الغناء في السودان وثيقة الارتباط بالمجتمع وتفاصيل حياته اليومية، فضلاً عن كونه يتسم بأبعاده الاجتماعية ودلالاته الإنسانية”.
وأكد سعيد أنه على الرغم من التنوع الثقافي في السودان واختلاف العادات والتقاليد، إلا أن الغناء قد أسهم في تفعيل حركة التواصل بين مختلف مكونات المجتمع السوداني، مما أثر في تعميق الترابط بين القبائل السودانية، كما أن الأغنية السودانية لعبت دوراً مهماً في التعريف بالسودان وإنسانه خارجياً .
ولفت إلى أن الفنان السوداني حمد الريح هو أول فنان عربي تغنى بكلمات الشاعر نزار قباني، أي قبل العندليب عبد الحليم حافظ، كما تغنى الفنان السوداني مصطفى سيد أحمد للشاعر العربي مظفر النواب، والشاعر محمود درويش، وتغنت كوكبة الشرق أم كلثوم بكلمات الشاعر السوداني الهادي آدم “أغداً ألقاك”:
“أغداً ألقاك يا خوف فؤادي من غد
يا لشوقي واحتراقي في انتظار الموعد
آه كم أخشى غدي هذا وأرجوه اقترابا
كنت أستدنيه لكن هبته لما أهابا
وأهلت فرحة القرب به حين استجابا
هكذا أحتمل العمر نعيماً وعذابا
مهجة حرة وقلباً مسه الشوق فذابا
أنت يا جنة حبي واشتياقي وجنوني
أنت يا قبلة روحي وانطلاقي وشجوني
أغداً تشرق أضواؤك في ليل عيوني
آه من فرحة أحلامي ومن خوف ظنوني”.
مشاركات خارجية
وأضاف الباحث في التراث السوداني: “لقد حظي السودان بمشاركات خارجية في مجال الفن، ويعتبر الفنان سيد خليفة عرابها الأول، كما أسهم الموسيقار محمد وردي كثيراً في نشر الأغنية السودانية في غرب أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي، إلى جانب مجموعة من الفنانين السودانيين الآخرين.
وأرجع عدم انتشار الأغنية السودانية خارجياً إلى عدم امتلاك الدولة السودانية لرؤية واضحة لتقديم نفسها للعالم من خلال الفنون، لا سيما أن الجيل الحالي من الفنانين قادر على الاستفادة من اتساع الفضاء، ووسائل التواصل الاجتماعي لإيصال الأغنية السودانية لكل العالم، معتبراً الأغنية السودانية من أكثر الفنون نجاحاً في التعبير عن التباين الثقافي والتنوع العرقي، حيث أسهمت في رسم ملامح صادقة للهوية السودانية من دون التأثر بإسقاطات الصراع السياسي والإثني والمناطقي.