المعلوم بالضرورة أن الانتخابات احـدى ادوات الديمقراطية وليس قمتها، فالنظام المباد أقام عدة انتخابات علي طريقته الفهلوانية ولكنها لم تأتي بديمقراطية بل كرست للاستبداد والطغيان.
وحتي تكون الانتخابات ديمقراطية لابد أن تكون مرتبطة بترسيخ مبادئ الديمقراطية المتمثلة في الحريات العامة وحقوق الإنسان، وسيادة حكم القانون، والتوافق علي قواعد اللعبة السياسية التي تضمن التنافس النزيه والعادل، وتأتي وفق اطار ديمقراطي وسياق مجتمعي متماسك، والالتزام الديمقراطية لدى الاغلبية والاقلية علي السواء.
والمقاربة الموضوعية هي تأسيس نظام ديمقراطي اولا يسمح بإجراء انتخابات بموجبه وليس العكس فالبعض يعتقد أن يتم إقامة الانتخابات أولا كمدخل لبناء النظام الديمقراطي وهذا ثبت فشله في التجربة المصرية والجزائرية والتونسية.
فكيف تقام الانتخابات في ظل سيادة نفس العقلية القديمة التي كرسها نظام استبدادي عميق؟.
وكيف تتم إنتخابات ولم يتم اصلاح جهاز الامن وجهاز الدولة المتهالك والقضاء والنيابة والمعلوم ان الوضع السابق موجود كما هو ومتحكم في المشهد لتأثيره علي الخدمة المدنية واجهزة الدولة والمجتمع والسوق؟
وكيف تتم إنتخابات وعملية توافق القوى الثورية محلك سر بل أن الصراع فيما بينها أكبر وأشـد من صراعها مع النظام المباد؟.
وكيف تتم إنتخابات ولم يحسم بعد مصير المجموعات التي كانت جزء من النظام المباد ولكنها وقفت مع الثورة وشاركت فيها؟.
وكيف تتم الانتخابات وقوى الوسط الداعية لها والقادرة علي خوضها والفوز بها متهمة بأن دعوتها هذه إضعاف للمدنية وعمل لصالح العساكر الذين دعوا ايضا للانتخابات المبكرة من منطلق طموحاتهم في السلطة وفي اطار الصراع بين المدنيين والعسكريين؟.
وكيف تتم الانتخابات وقوى اليسار ترفضها وتعيقها وتتنكر للديمقراطية من الاساس؟
وكيف تتم الانتخابات وقوى الردة التي تمثلها قوى اليمين والدولة العميقة بدأت تعمق خلافات قوى الثورة وتجمع شتات الثورة المضادة وتنادي جهارا نهارا برجوع النظام السابق؟.
وكيف تتم إنتخابات ومازال السلام منقوصا، ومازالت الترتيبات الأمنية وعودة النازحين واللاجئين وقضايا السلام الاخرى لم تحسم بعد؟.
وكيف تتم إنتخابات والشارع العام والمواطن البسيط لا يجد قوت يومه، وتحاصره المعاناة في الاسعار والخدمات والأمن والامان؟
إن الاسراع بالانتخابات دون الوفاء باستحقاقات الانتقال والتحول الديمقراطي سيزيد من حالات الاستقطاب والاحتـقان والانقسام ويفجر الاوضاع.
الانتخابات لا تنفصل عن بناء المؤسسات الديمقراطية، ونشر ثقافة الديمقراطية، وإستيعاب حركة الجماهير التي مازالت في الشارع، وتحقيق قدر من الاندماج الاجتماعي وتزويب الهويات الفرعية في هوية الدولة القومية الجامعة، وتوفير الحريات والحقوق، والقضاء علي مظاهر الفساد والعنف والقبلية، ومن ثم تطـرح الانتخابات ضمن منظومة التحول الديمقراطي وليس إنقضاض عليها.
إن المطالبة بالانتخابات والاستعداد لها ضرورة سياسية، ولكن الاولوية الاسراع بالمؤتمر القومي الدستوري وإلغاء القوانين المقيدة الحريات أو تعديلها حتي تصبح قوانين ديمقراطية وعلي راسها قانون الاحزاب وقانون الانتخابات..
الانتقال في السودان عملية معقدة تتطلب من القوى الديمقراطية أن تعلي دورها وان تتواضع علي برنامج حكم إنتقالي وبرنامج توعية جماهيرية وتقليل سقوفات وطموحات الجماهير واشراكها في مجابهة تحديات الانتقال والتوافق السياسي الداعم للحكومة الانتقالية.
هذا هو السبيل.. فلا يجدي الهروب من إستحقاقات التحول الديمقراطي نحو الانتخابات كأنها الخلاص مما يزيد القلق وعدم الاستقرار..
الحبيب الإمام طيب الله ثراه عندما تحدث عن الإنتخابات المبكرة كانت في سياق أنها إحدى السيناريوهات المحتملة، وجاء ذلك في إطار الـرد علي المزايدة على حزب الأمة القومي وكسبه السياسي وثقله الجماهيري ووزنه الفكري، فهو يعلم فحوى الوثيقة الدستورية وضرورة الالتزام بتوقيتاتها، ويدرك تعقيدات المشهد وتقلباته وطبيعة الفترات الانتقالية وما يصاحبها من قلق واستقطاب ومحاولات للعسكرة والاختطاف والردة..