ثمة نظرية سياسية فحواها “ان طريقة التغيير تتحكم بشكل مباشر في إدارة الفترة الانتقالية”، لقد حدث التغيير في السودان عن طريق الثورة وكان هذا خيار النظام المستبد الذي رفض الاصلاح والإنتقال الديمقراطي (وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ)، نجحت الثورة بتمسك الثوار بسلميتها وتحييد قوى القمع وإنحياز الجيش للثورة، حينها جرت عملية تفاوضية بين قوى الحرية والتغيير التي عبرت عن مطالب ثورة الشباب والمجلس العسكري الذي أكد علي حماية الثورة، وقد انتج التفاوض الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية التي حددت شكل الحكم الانتقالي ونصت علي تشكيل حكومة “كفاءات وطنية” والتي فسرت وقتها بأن المقصود حكومة تكنوقراط ذات مهام محددة. وبعد مـرور عام إتسم أداء هذه الحكومة بالتعثر وتواضـع مقاربتها لمقاصد الثورة ومهام الانتقال، علي الرغم من إنجازاتها في ملفات شائكة مثل شطب إسم السودان من قائمة الـدول الراعية للارهاب والحريات الدينية ورفع العقوبات وإسترداد السيادة الوطنية والانفتاح الاقليمي والدولي وتحقيق المرحلة الأولى من السلام وبداية الاصلاحات القانونية والسير في خطى الاصلاح الهيكلي للإقتصاد بعقد المؤتمر الإقتصادي والعمل المضني في تفكيك منظومة الاستبداد والتمكين.
صحيح كانت الاستجابة لمطلب الشارع والثـوار بتشكيل حكومة تكنوقراط بهدف رسـوخ الدولة والإصلاح المؤسسي وتنفيذ برنامج عبـور التجربة من شاطئ الإستبداد الي شاطئ الديمقراطية، ولكن، أثبتت مسيرة عام من إبعاد الاحزاب من الحكم بروز شـروخ في هوية المجتمع السوداني الي هويات فرعية أساسها القبلية كمنصة للحماية والرعاية مما يعد انتكاسة للدولة الحديثة وتمهيد الطريق للاستبداد الجديد والعسكرة والاختطاف والردة والحرب الأهلية، وتعالت الأصوات الشمولية ضد الاحزاب ووصف الحرية والديمقراطية بالفوضى، وإعاقة عملية التوافق السياسي لصالح التوازنات الهشة، وبرز للسطح الصراع بين المدنيين والعسكريين وبين العلمانيين والمتمسكين بدور الدين في الحياة العامة بدلا عن الصراع بين البرنامج الديمقراطي وغير الديمقراطي، تجلى ذلك بوضوح في إرتباك إدارة المرحلة الانتقالية، ولعل هذا يرجع بالاساس الي عملية التفاوض نفسها التي أجابت علي سؤال من يحكم؟ علي حساب كيف تحكم الفترة الانتقالية؟ والإخفاق في تصريف شعارات الثورة الي مبادئ الحكم الانتقالي..
بعد عام بدأت قضايا الانتقال المعقدة تبرز بوضوح، وأهمها مقاربة مقاصد الثـورة ومهام الانتقال للواقع، والي اي مدى تعبر الحكومة الانتقالية على روح الثـورة وتجلياتها؟، هل نحن في طريقنا الي تحول ديقراطي أم الي انتكاسات وإنحرافات تجلب إستبداد جديد؟، وهل حكومة التكنوقراط قدر المسئولية أم هي مجرد مرحلة ما بين النظام السابق والنظام الديمقراطي المنشود مشدودة للماضي تارة والي المستقبل تارة أخرى؟، وهل قوى الحرية والتغيير حاكمة بالفعل أم أنها معزولة عن حكومتها التي أتت بها في الوقت الذي يحملها الشارع تعثر الانتـقال؟، وهل إقالة أو إستقالة سبعة وزراء من التكنوقراط إستجابة لضغط الشارع ام رغبة قوى الحرية والتغيير أم تقدير رئيس الوزراء؟، عطفا علي سؤال مشاركة القوى الثورية بموجب إتفاق السلام الذي أعطى الحركات حق المشاركة في الحكومة الانتقالية؟ وهل هو حق حصري على الحركات أم فتح الباب علي مصرعيه لتحمل كل الاحزاب مسئوليتها في الحكم الانتقالي؟، والي أي مدى يمكن الوفاء بإستحقاقات كبرى كصناعة الدستور وتعديل القوانين في ظل غياب الاحزاب عن اتخاذ القرار حولها؟.
بالمقابل بـرز إتجاه قوي الي أهمية تصـدي القوى السياسية الي مهام الإنتقال بالأصالة بعد تعديل الوثيقة الدستورية ومشاركتها بكفاءات وطنية حزبية قادرة علي إدارة المرحلة، هذا التطور نفسه طـرح عدة تساؤلات، الي اي مدى يمكن ان تقدم قوى الحرية والتغيير وأطراف العملية السلمية كفاءات حزبية تمزج بين الخبرة السياسية والفنية؟، وهل ما نشاهده تكالب علي السلطة دون إستحقاق إنتخابي أم ضرورة مرحلة لتنفيذ برنامج إدارة ما تبقى من الفترة الانتقالية؟، وهل الديمقراطية كملمح مازالت الفريضة الغائبة في الانتقال وأننا مقبلين علي محاصصة حزبية لضمان مشاركة الاقلية التي تستبد صعودها للسلطة إنتخابيا أم آن الاوان لإستخدام السلطة الانتقالية كمنصة لترسيخ الديمقراطية وقطع الطريق أمام الديكتاتورية؟، وهل ستنفذ حكومة الكفاءات الحزبية تطلعات الجماهير أم تطلعات النخب الحزبية؟ وكيفية التوفيق ما بين البرنامج الحزبي للوزير وبرنامج الحكومة؟، وهل سينتقل الصراع السياسي بين المكونات الحزبية الي داخل مؤسسات الحكومة خاصة وأن هناك عدد من القضايا العالقة أظهرت المواقف حولها تباينا ايدلوجيا وسياسيا عميق؟.
ولكي تنجح حكومة الكفاءات الحزبية التي تواجهها الازمات والتحديات من كل إتجاه، لابد من التواضع علي مصفوفة التدابير والترتيبات والسياسات يمكن إجمالها في:
• إعداد برنامج إسعافي لمعالجة المشكلات الإقتصادية والصحية والخدمية والامنية وتصارح الشعب وتخاطب مخاوفه.
• إستكمال بقية هياكل السلطة الانتقالية خاصة المجلس التشريعي والسيادي والمفوضيات والحكم الولائي.
• إصلاح الحرية والتغيير كحاضن سياسي قوي وفاعل والتوافق السياسي علي قضايا الانتقال وفق رؤية إستراتيجية للقوى الرئيسية في المشهد بغية تقديم الدعم السياسي والفكري والدبلوماسي للحكومة الانتقالية.
• إستيعاب حركة الجماهير والمجموعات الإجتماعية في منصات ثقافية تنويرية بالمشروع الوطني وتحويل حراكها لروافع داعمة لسياسات الإنتقال.
• التوافق علي ميثاق يضبط الشراكة بين المدنيين والعسكريين ويزيل التناقضات والتباينات.
• إستعجال تحقيق العدالة الانتقالية وإجراء المحاكمات العادلة لكل المحبوسين من رموز النظام المباد، وإستعجال لجان التحقيق في الانتهاكات التي تمت في فض الاعتصام وما بعدها.
• دعم حرية الاعلام والتعبير والحق في الوصول للمعلومة، وتشجيع إسهام الاعلام في إنجاح الفترة الانتقالية..
ختاما السودان أمام فرصة تاريخية للإنتقال والعبور، هل تستوعب النخبة السياسية درس تجارب الإنتقال في المنطقة وتضع البلاد علي منصة التأسيس الديمقراطي، أم تجعل الشعب يتباكى علي فترة حكم التكنوقـراط؟ هذا ما ستكشف عنه الأيـام.