عندما اعتلت الحركة الإسلامية سنام السلطة عبر انقلاب يونيو 89 كانت حينها جزء” من اللعبة السياسية والتجربة الديمقراطية الثالثة التي أعقبت انتفاضة مارس-أبريل المجيدة وبرغم من أن توازن القوى في الفترة الانتقالية حينها كان لصالحها- اي الحركة الإسلامية – الأمر الذي جعلها تشكل ثالث قوة انتخابية عقب اول انتخابات بعد فترة الانتقال القصيرة بقيادة المشير سوار الدهب والدكتور الجزولي دفع الله بميولهما الحركية الإسلامية المعروفة. من المهم هنا الإشارة إلى أن مخرجات انتفاضة مارس-أبريل وعجز حكومة الانتقال والحكومة المنتخبة عن تصفية آثار مايو السياسية والقانونية والاقتصادية هو المدخل الذي أعاد سدنة النظام المايوي وحلفائه(الحركة الإسلامية) عبر منهج سلخ الجلد والغسيل السياسي على وزن غسيل الأموال(الجبهة الإسلامية) إلى مسرح الأحداث والتأثير السياسي..
ان هذا التوازن المشار إليه لصالح الحركة الإسلامية لم يمنعها من التفكير الانقلابي وجموح نزعة التسلط الكامنة في الفكر الإخواني من تنفيذ انقلابها على التجربة الديمقراطية قبل أن تكمل دورتها الأولى وتدخل البلاد في أتون اسوأ تجربة امتدت ثلاثين عاما خصما من مسيرة التطور الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة.
على الجانب الآخر لم تستطع القوى السياسية السودانية بمختلف تكويناتها الموقعة على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية أن تحيل نصوص الميثاق إلى حركة معارضة واسعة ضد الانقلاب ووأده في مهده قبل أن يتمكن من الإمساك بتلابيب البلاد وتدمير بنياتها لصالح مشروع التمكين السياسي الحركي باوجهه المختلفة اقتصاديا واجتماعيا.
بدأت حركة المعارضة للانقلاب العسكري منذ وقت مبكر بميلاد التجمع الوطني الديمقراطي والتوقيع على ميثاق سياسي متقدم في أكتوبر 89 ومن ثم تطورت حركة المعارضة السودانية للنظام عبر منعطفات ومنحنيات كثيرة مسلحة وسلمية تباينت فيها التحالفات وتنوعت تكتياتها برغم اتفاقها الاستراتيجي على تشخيص طبيعة النظام وأهمية إسقاطه وإقامة البديل الوطني الديمقراطي، ولعل هذه الشعرة السياسية هي التي جمعت كل الكتل المعارضة على التوافق في اللحظات الحرجة من أزمة النظام على الاتفاق على ميثاق قوي الحرية والتغيير بإجماع وطني تاريخي لانظير له في حشد قوي الثورة والتغيير كان له الأثر الكبير في إسقاط النظام عبر حراك جماهيري امتد لخمسة أشهر متتالية وتحقق الانتصار الذي كان مهره مئات الشهداء من أجل الحرية والسلام والعدالة.
ان الاصطفاف الذي تمكن من إسقاط النظام الديكتاتوري عبر التوحد في الهدف والآلية والذي كان معولا عليه كثيرا في مشروع التغيير، لم يقدر له النجاح في بلوغ أهداف الثورة بسلاسة في مختلف القطاعات ، والسؤال الجوهري هنا لماذا عجز التحالف الذي قاد الجماهير نحو الانتصار عن بلوغ محطات الوصول؟ أو السير في طريق التغيير الثوري باتفاق وانسجام دون تنافر وانقسام؟ وهذا مايفسر وللأسف حقيقة المشهد السياسي الماثل.
إذا أردنا تحليل الواقع بموضوعية وانصاف فإن أهم اسباب الارتباك فى المشهد السياسي والضبابية الماثلة والتردي الاقتصادي وتدهور الأوضاع المعيشية يكمن في عدة نقاط مفتاحية تمثل إجابات تفسيرية من وجهة نظر كاتب المقال وقراءته للمشهد السياسي ليس إلا وتتلخص فيما يلى:
◾يمثل غياب التوافق على منهج ورؤية واضحة للتغيير الثورى بين مختلف مكونات كتل التغيير، وهنا ليس المقصود العملية الفنية أو آلية التغيير وإنما المقصود جوهر التغيير ومدياته ومطلوباته ومجالاته القائمة على وعي حقيقي لمفاهيم الثورة والتغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
هذا العنصر المفقود يفسره طبيعة التحالف العريض الذي قاد الثورة بتباين منطلقاته الفكرية وتباين القوى الاجتماعية التي يمثلها وتقاطع مصالحها.
◼️عدم التوافق على مشروع وطني سياسي متكامل لإدارة الدولة غير قابل للصراع والاختلاف في تفاصيله ومقتضيات تحويله إلى خطط واستراتيجيات في مجالات الحياة، جعل من حكومة الانتقال الثوري بلاروح أو دليل نظري وعملي..
◾لم يتسنى لحكومة الانتقال الثوري تبني برنامجا واضح الرؤية والمعالم في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية على مستوى جهاز الدولة.. الخ، ماجعل الحكومة الانتقالية تبدو جزر معزولة منعدمة التنسيق والتوافق حول ملفات غاية الأهمية كالاقتصاد والسياسة الخارجية والسلام وكبح جماح التردي في الخدمات.. الخ
◾الاختلاف الكبير والواضح في منهج مواجهةو إدارة ملف الأزمة الاقتصادية التي تمثل اس الأزمة الوطنية وعدم اكتراث حكومة الانتقال لمطالب الجماهير وقواها السياسية والاجتماعية والتي لخصتها توصيات المؤتمر الاقتصادى والإصرار على تنفيذ سياسات ترمي بثقلها على العامل الخارجي (صندوق النقد والبنك الدوليين) لاتحوز رضا الشعب بل وتفاقم من أزمته المعيشية المستحكمة.
◾غياب التنسيق السياسي المحكم بين أطراف كتل قوي الثورة والتغيير وبين الحكومة الانتقالية جعل العلاقة بين الحكومة وحاضنتها السياسية مسكونة بالتنافر وعدم الانسجام من جهة، وحالة اهتزاز الثقة بينها وبين الجماهير من جهة أخرى.
غياب التنسيق افقد تحالف الثورة الرشاقة السياسية وعدم القدرة على حل المشكلات بروح الفريق وتبادل الاتهامات الذي كرس صورة باهتة في اذهان الجماهير.
◾إن التوازن السياسي الذي أنتج معادلة الانتقال واسس معادلة التسوية السياسية بين العسكر والمدنيين على مضض(الوثيقة السياسية والدستورية) لم يكن متكافئا من حيث الرؤية والأهداف التي يتوخاها التحول الثوري الديمقراطي وقد يبدو في كثير من الملفات بارز التناقض لاسيما في المجال الأمني والاقتصادي،الامر الذي جعل الكثيرين ينظرون للمكون العسكري كاحتياطي لقوى النظام المباد لاسيما في ظل التنافر البائن بين المجلس السيادي ومجلس الوزراء في إدارة ملفات السياسة الخارجية والملف الأمني وملف السلام. هذا الاختلال جعل هذا التوازن السياسي القائم محاط بتجاذبات قوي الثورة المضادة ورغبتها في إجهاض التحول الديمقراطي.
◾تمسك المؤسسة العسكرية بامتيازاتها في المجال الاقتصادي وامتلاكها لمفاتيح النشاط الاقتصادي وعدم إعادة هيكلتها وعودة المفصولين تعسفيا يجعل مسيرة التحول المدني الديمقراطي محفوفة بالمخاطر ويفاقم من الأزمة المعيشية ويجعلها(المؤسسة العسكرية) دولة موازية..
◾إن حالة السيولة الأمنية والتراخي مع محركات النزعة القبلية التي تنتهجها قوي النظام السابق كواجهة للصراع تقدح في جدارة المكون العسكري وحجته التي برر بها امساكه بهذا الملف والفشل الواضح في إدارته بما يشئ مستقبلا إلى تطور معاكس معيق في طريق بناء بناء دولة المواطنة المتساوية والحقوق..
◾احد أسباب الحالة الرمادية في أداء حكومة الانتقال عدم التوافق حول مفهوم الكفاءات الوطنية إذ ثبت بمالايدع مجال للشك أن المطلوب لتنفيذ أهداف الثورة كفاءات وطنية سياسية تجمع بين الاستعداد النضالي والانتماء الثوري والكفاءة المهنية، ولعل غياب هذا الشرط كان عامل ضعف في أداء حكومة الانتقال..
◾أيا كانت الأسباب وموضوعيتها حول غياب المجلس التشريعي كجهة رقابية لأداء السلطة التنفيذية، فمن الواضح أن غيابه كان عاملا جوهريا في ضعف أداء الحكومة وتعثر خطواتها في تنفيذ أهداف الثورة، وبالمقابل فإن الصيغة البديلة(اجتماع المجلسين) بعدم انسجامها لم تكن مؤهلة لأحداث تحولات كبيرة لصالح مسيرة الثورة.
◾إن القصور الذي شاب عدم فاعلية مؤسسات تحقيق العدالة في الفترة السابقة وضعف قادتها وانعدام حساسيتها تجاه أهداف الثورة في أهم شعاراتها لعب دورا كبيرا في إشاعة حالة من الإحباط وفقدان الثقة في أوساط أسر الشهداء وضحايا النظام المباد..
◾شكلت حالة الصراع السياسي بين أطراف قوي الثورة التي حمكتها نوازع الذاتية وضيق الأفق السياسي وتحقيق المكاسب والغرق في التكتيك والتفرد وايثار السهولة في العمل السياسي، شكلت حالة من تداخل الخنادق أتاحت لقوى الردة مساحة من الحركة للانقضاض على الثورة..
إزاء كل ماتقدم ماهو المطلوب لكي تعود الثورة لمنصات تأسيس أهدافها وعبور فترة الانتقال؟ ودون تبسيط المطلوب وحدة قوى الثورة على مشروع وطني متكامل للانتقال الديمقراطي والدولة المدنية واستكمال السلام وتفكيك الدولة العميقة ومحاربة الفساد ومحاكمة رموزه وآليات تحقيق العدالة الانتقالية في كافة الجرائم.
إن مشروع التغيير الثوري يحتاج لإعادة تجديد بنيوي أكثر صرامة ومبدئية في الانحياز لاهداف الثورة وتجاوز حالة الرخاوة والبطء.