أخيرا تحرك حكامنا الهميمون لحل أكبر مشكلة تواجه البلاد، حيث اجتمع عضو مجلس السيادة صديق تاور بالمطرب عبد القادر سالم والمناضلة ندى القلعة، التي عادت مؤخرا من جبهات القتال حيث ساهمت في استعادة الفشقة، وشوهدت وهي تنطط بالزي العسكري في طابور لقوات الصاعقة، وكان الغرض من الاجتماع رفع الحظر عن الصالات العامة بحيث يتسنى للمطربين تنظيم حفلات غنائية، بعد ان تفشت المجاعة في اوساطهم ونضبت الشحوم من الجضوم والكروش، و”جرى دمعي بالمايق وجرى دمعي”
لا استخف بدور الموسيقى في حياة الناس، فهي في الفطرة البشرية حيث تجد الموسيقى في حفيف الشجر وتغريد الطيور وانسياب المطر والموج وهفهفة النسيم، ولكنني ضد تمجيد أهل الطرب بما لا يستحقونه لدرجة الهوس، ومن أكثر الفوائد التي جنيتها من تدريس البنات في المرحلة الثانوية، النفور من الحفلات عموما، ويا ويل مدرس بنات يُشاهد في حفل عام لأنه يجد عشرات القصص يتم تداولها عن عينه الزائغة اثناء الحفلة في اليوم التالي عبر منصات منبرشات الشفهية
نشأت مثل معظم السودانيين في بيئة يغني أهلها وهم يؤدون الزراعة والحصاد والبناء وغيره من الأنشطة، ومعلوم ان فنون الغناء السودانية الحديثة خرجت من تحت مظلة الانشاد الديني (المديح)، وان من وضع مداميك فن الغناء الذي صار يعرف بالحقيبة هو محمد ود الفكي الذي قدم الى ام درمان من كبوشية، وكان مادحا وقارئا للقرآن وحافظا للشعر ثم عرج على مجال الغناء ومنه التقط الشعراء والملحنون المعروفون الخيط ونسجوا معظم تراثنا الفني
وأعتقد أنه لا حاجة بعاشق الغناء الى حضور الحفلات العامة للاستمتاع به، وعليه فإنني استمتع بلون الغناء الذي أحبه وأنا بمفردي أو في مكان هادئ، وبداهة فإنني شديد النفور من فرق الغناء الحالية لما يصاحبها من دوشة وكركبة تصدر عن آلات تئن تحت ضغط الأصابع والقرع والخبط، وأعرف ان في الساحة الحالية أصوات جميلة جدا ولكنها جمالها لا يظهر إلا وهي تؤدي أغاني المراحيم القديمة، أي ان انتاجهم الخاص يدخل من أذن ويخرج من الأخرى فورا
من جيل المطربين الثالث ظل خالد محجوب (الصحافة) يحظى باحترام أذني وقلبي لأنه يسير في خط تصاعدي ثابت ولم يلوث حنجرته بساقط الكلام واللحن، وينأى بنفسه عن هرج الأضواء والمنابر، ويطربني عصام محمد نور ومنتصر الهلالية وكثيرين غيرهما ولكن فقط عند أداء أغنيات من أرشيفنا الغني، ولكن أن يصبح أمر توقف عداد نقود المطربين عن الدوران ل8 أسابيع قضية الساعة في بلد تصاعد فيه الغلاء بنسبة 500% في غضون الأشهر الخمسة الأخيرة، فهذا عبث واستخفاف بمشاعر الغالبية المسحوقة، لأن تناول القضية على مستوى “السيادة” والتعهد بالسماح بإقامة الحفلات في ظروف الموجة الثانية للكورونا، يعني ان أرواح الناس المهددة بالإصابة بالفيروس غير ذات قيمة طالما ان هناك بضع عشرات او حتى مئات من المطربين سيستردون عروشهم وقروشهم ويكفوا عن البكاء