نستأذن القارئ العزيز المتابع لسلسلة مقالاتنا حول شرق السودان، في تخصيص مقال اليوم لقضية طارئة برزت إلى سطح المشهد السياسي السوداني، على أن نواصل من مقالنا القادم، تناولنا لقضايا شرق السودان. وفي الحقيقة، ما كان لنا أن نخرج عن المسار المرسوم لمقالاتنا لولا هذه التطورات التي نرى فيها مهددا جديا لأمن وسلام البلاد، ولا أقول مهددا لثورة السودان لأن الثورة انتصرت لتبقى ولتسير بالوطن إلى الأمام، مهما كانت التحديات والاحباطات والانتكاسات، فهذه كلها مؤقتة، ومتوقعة.
في ديسمبر/كانون الأول 2018 اندلعت ثورة السودان وانتصرت، بعد أربعة أشهر من الفعل الثوري المستمر، والمتصاعد والمتنوع، في ملحمة تاريخية سُطّرت وعُبّدت بأرواح الشهداء، وبصمود الجماهير واعتصامها ليل نهار في شوارع مدن السودان، وبانحياز الجيش السوداني للشارع وخيار الانتفاضة.
لم يأت الانتصار بغتة أو من فراغ، وإنما جاء ثمرة لتراكم الفعل النضالي المعارض خلال ثلاثة عقود، تناثر خلالها رذاذ الدم في أقبية التعذيب وساحات الحرب الأهلية، وضاقت السجون ومعتقلات بيوت الأشباح بالآلاف من الشرفاء، وشهد السودان، لأول مرة في تاريخه، الخروج الكبير إلى المنافي بحثا عن الأمن والأمان، وأصابت الناس وجعة انقسام البلاد إلى شطرين، وكل ذلك بسبب طغيان واستبداد غير مسبوقين في تاريخ السودان الحديث، فرضهما ساسة الانقاذ وهم في القيادة يدمرون هذا البلد الأمين حتى أُقتلعوا تصحبهم اللعنات ودعوات الهلاك. ولكن، ورغم الفرحة بالإنتصار، فإننا رأيناه هشا وجزئيا، إذ نجح فقط في إزالة أحد مستويات الغطاء السياسي لنظام الانقاذ، بينما المُغطى لا يزال باقيا حتى اللحظة، مؤسسات وقوانين وشخوص، وفي استطاعته إعادة إنتاج نفسه بغطاء سياسي جديد خادع. وقولنا بهشاشة وجزئية الانتصار الباهر الذي إقتلع من كان يدعي أنه زُرع في أرض السودان ليبقى حتى يوم القيامة، لم يكن تقليلا من حجمه، وإنما كان دعوة للحذر واليقظة وضرورة تجسيدهما في فترة انتقالية وتدابير انتقالية فعالة، تنتقل بالإنتصار الجزئي والهش إلى مواقع الرسوخ ومنصة تأسيس الدولة السودانية الحديثة، والخطوة الأولى، الرئيسية والجوهرية، في اتجاه تنفيذ هذه التدابير الانتقالية، هي تصفية دولة تحالف الفساد والاستبداد، مؤسسات وقوانين، وإبعاد كل قياداتها من مواقع المسؤولية، ومحاسبة كل من ارتكب جرما في حق الوطن والمواطن، وذلك وفق القانون بعيدا عن التشفي وروح الإنتقام، وعبر آليات تتكامل في مهامها وأهدافها، ومن بينها لجنة إزالة تمكين نظام الانقاذ، والتي كونت بالإستناد إلى الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الإنتقالية، ووفق قانون مجاز من اجتماع مشترك لمجلسي السيادة والوزراء. وبنص الوثيقة الدستورية، يقوم هذا الاجتماع المشترك مقام السلطة التشريعية إلى حين قيام المجلس التشريعي الانتقالي.
هناك أمران في سياق التطورات الأخيرة في المشهد السياسي الراهن في البلاد، أحدهما طبيعي ومتوقع، والآخر غير طبيعي وغير متوقع. الأمر الطبيعي أن يسعى تحالف الفساد والإستبداد المدحور للانقضاض على الثورة ليحكم من جديد وبقوة الدم المسفوح، وحتى إن لم يتمكن من العودة إلى كراسي الحكم، فلن يهمه أن تدخل البلاد في نزاع دموي شرس، وتتمزق إرباً إربا. وهو من الصعب جدا عليه أن يبتلع ضياع ما راكمه من ثروات ضخمة خلال الثلاثة عقود الماضية. وهي ثروات لم تُجن بكدح عرق الجبين أو بتدوير رأسمال متوارث، وإنما بإستغلال يد السلطة في نهب موارد البلاد وأحلام مستقبل شبابها. هذه الثروات يجري إستخدامها الآن في التحضير الجدي للانقضاض على الثورة، وعبر تمويل العديد من الأنشطة القذرة التي تشمل تأجيج النزاعات القبلية والجهوية، كسر هيبة الدولة وإظهار عجزها عن حماية المواطن، وذلك بمساعدة أزلام الانقاذ المتنفذين في مؤسسات الدولة، محاولة السيطرة على وسائط التواصل الإجتماعي لنشر الإشاعات الكاذبة وبث خطابات التخذيل والإحباط والكراهية…الخ. ولما كان من مهام لجنة تفكيك نظام الانقاذ الكشف عن هذه الثروات المنهوبة وإستعادتها، والكشف عن هؤلاء المتنفذين واستبعادهم من مواقع المسؤولية، كان من الطبيعي والمتوقع أن تصبح اللجنة هدفا لهجوم تحالف الفساد والاستبداد وتصفيتها حتى لا تقف حجر عثرة أمام مخططات الانقضاض على الثورة. كل هذا طبيعي ومتوقع من قوى لا يهمها الوطن ولا شعبه. لكن، غير الطبيعي وغير المتوقع حد الإحباط، أن يأتي أداء الأجهزة التي تقود الفترة الانتقالية وكأنه يساعد مخططات قوى الثورة المضادة، في ظل حقيقة أن الجرائم البشعة التي أرتكبت خلال الثلاثين عاما الماضية ثم إبان حراك الثورة، لاتزال دون مساءلة أو عقاب، بل مرتكبوها لا يزالون في مواقع السلطة، وفي ظل عدم المساس بالمتنفذين ضمن هياكل السلطة الحالية، والذين يدينون بالولاء لتحالف الفساد والإستبداد، ولا يخفون رغبتهم في الانتقام من الشعب ومن ثورته، وفي ظل ضعف الحكومة وهوانها أمام هجمات مجموعات الهوس الديني، والمجموعات المثيرة للفتن والمهددة للأمن، وفي ظل إطلاق وعود وتسويفات مثيرة حقا للسخرية، وفي ظل تعاملها مع الشعب الذي أتى بها وكأنها غير معنية بالجوع الذي يطحنه، وغير معنية بثورته، في إزدراء مثير للشكوك.
يمكننا جميعا أن ننتقد أداء لجنة إزالة التمكين، فهي غير منزهة عن الخطأ، ويمكننا جميعا مقاضاتها أو أي من أعضائها أمام المحاكم، ويمكننا أن نقترح التعديلات الضروروية في قانونها ومناهج عملها إعلاء للعدالة وسيادة القانون، لكن أن نشن عليها حملات التشويه، ونرهب عضويتها، ونطالب بحلها، فهذا يصب في خانة التلاعب بشعارات الثورة تمهيدا لتصفيتها، خدمة لمخططات تحالف الفساد والإستبداد. أما قوى الثورة بمختلف مكوناتها المتشظية للأسف، فنقول لهم إن الخطر الداهم يتهدد ثورتهم، وأن السودان اليوم في مهب الريح، ولا سبيل لدرء ذلك إلا بوحدتهم وتماسكهم، لأن ما يجمعهم في أهداف الثورة أقوى مما يفرقهم، وبالوحدة يمكنهم اجتناب الفخاخ المنصوبة لتشظيهم وإضعافهم، تمهيدا للانقضاض.
نقلا عن القدس العربي