تجربة الشاعر الفلسطيني موسى حوامدة تحفل بمستويات عدة فتارة يكتب قصائده عن الوطن المحتل، وتارة أخرى تحضر المقاومة كوجه من وجوه الرفض وأسئلة الحياة والوجود، فيما يتبدى التمرد جليًا في كل ما يكتبه، وهو يؤكد أن الشعر سيظل عين الحرية المفتوحة وشمس الكرامة التي حاول الكثيرون طمسها.التقيته عبر البريد الالكتروني
وكان لنا هذا الحديت حول عوالم الكتابة وأسئلة الشعر.
-حدثنا عن ولادة القصيدة لديك *
التجربة والشغف هما دافعي أو أحدهما لكتابة القصيدة، ولأني فقدت الشغف منذ سنة ولم أمر بتجربة أو أزمة حقيقية، فلم أكتب شيئًا جديدًا، فبعد مجموعتي الأخيرة “سأمضي إلى العدم” التي صدرت نهاية عام 2017 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، كتبت قصائد تابعة لنفس التجربة، حتى وصلت الى قصيدة “مياه نهر بعيد وجرح لا يؤلم الأرض” وهي عن الفراغ، في أواخر 2017 وبعدها، شعرت أني قلت كل ما أريد.
لم أكتب جديدًا منذ سنة تقريبًأ، وهنا أحس بأن الموهبة توقفت، جفَّت، أو غادرتني، وأخشى انها لن تعود، وهذه أول مرة أصرح بذلك، فالقصيدة عندي تجربة قبل أن تكون وصفًا لشيء أو حدث كما يقول صديقي الشاعر والناقد المغربي عمر العسري، في رؤيته لماهية الشعر الحديث. توقفت عن كتابة القصيدة، فرت طيور الشجن، ورست سفن الطيش، ربما أحتاج إلى تجربة جديدة، لا تكون مثل التجارب السابقة، لأن التكرار والتشابه النمطي لا يعني لي تجربة جديدة.
– في قصائدك هناك بعد فلسفي ما دور الشعر في الفلسفة؟
- قبل أن يتلعثم الفلاسفة بطرح تمتماتهم عن الوجود والحياة، كان الشعر قد طوح بعيدًا في التروبادور والغناء والغزل والفخر وذكر الملاحم والبطولات والصراع مع الآلهة وقوى الطبيعة، فغنى للموت والفرح والحب والفقد والخسارة والبطولة والصفات الجميلة، وقبَّح الصفات البشعة في البشر، ولم يتوقف عند الغنائية، بل حمل الكثير من أسئلة الفلاسفة قبل أن تتبلور مدارس الفلسفة الشهيرة، وتترسخ أسماء الفلاسفة الإغريق، لكنني لا أرى الشعر في حالة صراع مع الفلسفة بل في حالة تكامل وتناقض وهدف واحد، لأن المنبع واحد، وإن اختلفت السواقي، الفلسفة تطرح الأسئلة المنطقية والحجاجية، وتطور نظرياتها، والشعر يريد تغيير العالم، من هنا أعتقد أن الشعر والفلسفة يلتقيان في تصور لماهية الوجود ومستقبل البشرية، أما الوقوف عند أعتاب الموضوعات القديمة والمستهلكة للشعر فلن تضيف جديدًا لما كتبه الشعراء السابقون، فلم يبققوا شيئًا إلا وتحدثوا عنه، والشاعر مطالب بتقديم رؤيا للوجود والكون وليس مجرد وصف لمشاعره، أو لعيون حبيبته. الشعر بدون فسلفة ورؤية ورؤيا لا يتعدى كلمات غنائية قد تبدو جميلة ورومانسية لكنها لا تشفي غليل الكينونة والشعرية.
– يقول محمود درويش وطني ليس حقيبة ويقول آخر وطني لغتي، ما الوطن بالنسبة لك حالة ام جغرافيا؟
كنت أقول الوطن هو اللغة، لكني اليوم بدلت نظرتي، فالوطن مجرد وهم آخر من أوهام البشر، فما هو الوطن؟ إن قلت هو ليس حقيبة وليس مدرسة وليس راتبًا، وليس منصبًا حكوميًا، وليس وليس فكلها لا تتعدى نفي أشياء مطلقة، لا تقدم ولا تؤخر في المعنى، لكنها مجرد أقوال لا نملك دحضها أو نفيها، ولا يلزم اثباتها، صحيح أن الشعر لا يتعامل مع الحقائق بشكل مجرد، لكنه في العمق يعكس فهم الشاعر للمفاهيم والمصطلحات، شخصيًا، لم أعد أصدق وهم الوطن ووهم القوميات والأديان والطوائف، أرى أن الإنسان نفسه كائن إشكالي والحياة إشكالية، والحبال التي يخترعها البشر لتكبيل أرواحنا تتزايد وتتضاعف والصراع كله منصب على السيطرة على عقل البشر وتوجيههم توجهات استهلاكية وانماط متشابهة من التفكير والقطعنة مع الآخرين، حتى أن بعض المفكرين تورطوا في مثل هذه المقولات مثل ريجيس دوبريه الذي يمتدح الحدود ومثل سارتر الذي يشتم الآخرين، لمجرد أنه آخرون، ونحن نصدق هذه المقولات دون تفحيص. في الحقيقة لم يعد هناك قدسية لشيء لا لوطن ولا لأي وهم نلفه حول رقابنا، والوطن بالنسبة لسكانه يختلف من شخص لآخر فمن يستفيد من ثروات الوطن وينهبها يتغنى بالوطن ولكن الفقراء مجبرون على حب وطن لا يعطيهم أبسط حقوقهم هل رأيت الظلم في التعريفات والأوهام.
– بدأت بكتابة قصيدة التفعيلة إلا أنك ترى تجربتك أخذت منحىً مختلفًأ، هل الشعر قوس مفتوح عبر أشكاله المختلفة؟
*هو كذلك، نعم بدأت بكتابة قصائد موزونة كما كنت أتصور أن ذلك هو الشكل الأمثل لكتابة القصيدة، وبعد أن تطورت تجربتي وتوسعت واطلعت على الكثير أو القليل من تجارب الشعر في العالم العربي والعالم وجدت أن الشعر ليس وزنًا ولا شكلًا محددًا، وأن العروض يحدُّ من الخيال وحتى من الشعرية نفسها، ولهذا بدأت أكتب قصيدة دون التركيز على الوزن الذي وضعه الخليل بن أحمد، لا ألوم أحدًا ممن سبقوني، وممن حاولوا تأطير الشعر من أرسطو حتى قدامة بن جعفر وابن طباطبا وما تلاهم من نقاد وشعراء حتى اليوم، لأن الشعر يتطور كما هي الحياة، وكما هو النقد نفسه والفلسفة والإنسان عموماً، والحفاظ على الوزن والقافية لم يعد صالحاً، وهو نمط تقليدي بحت لكتابة الشعر قد يقول قائل هناك الكثير من الركام مما يكتبه من لا يقيمون ولا يعرفون الوزن، وبالمقابل هناك الكثير مما يكتب حسب الوزن لا معنى فيه، إننا لا نملك الوصفة الطبية الناجزة للكتابة، وأعتقد أن التبدل والتغير صفة الكتابة بشكل عام، فمن يضمن أن تبقى الرواية الحالية هي النموذج المتبع في المستقبل او القصة القصيرة أو حتى قصيدة النثر، نحن نكتب مقلدين لغيرنا، وحين تكثر الخروجات على القاعدة وعن المألوف، تصبح قاعدة جديدة، المهم ألا نقع أسرى النمطية والثبات
هل يراهن الشاعر على الشعر وحده أمام القضايا الكبرى؟
- نعم فالشاعر محكوم بقدره، وهو الاشتغال على شعره، كما أن الكيميائي أوالفيزيائي محكوم بقدرته على تطوير الكيمياء أو الفيزياء. الشاعر ليس قائدًا عسكريًا، ولا مصلحًا اجتماعيًا، ولا مهندس مياه أو زراعة، هو مجرد شاعر، والحياة لا تقوم ولا تكتمل بالشعر فقط، لكن الشعر وجد لتحقيق أغراض لا يحققها العلماء والخبراء والثوار والمدرسون ورجال الدين، لكلٍ مهمته ودوره، ولا يجوز أن نحمل الشاعر أوزار الوجود وخطايا البشرية، وهزائم الأمة.
– في كل مرة تخوض فيها مغامرة مع القصيدة تعلن الحرب على القيود.. اللغة…السلطة ..عين الرقيب.. هل أنت شاعر متمرد؟؟ - *كلمة التمرد غير مستحبة في الكتب السماوية وخاصة التوراة فالمتمردون أو المردة هم الخارجون على القانون، لكن القانون صارم ولا يبيح الخروج عليه، حينما أكتب لا أحفل بالقانون ولا أفكر بالتمرد، فقط أمارس حقي الطبيعي ببساطة وبلا ضجيج أو افتعال، فلست متمردًا بأي ثمن ولا بأي شكل، ولعلي أنتفض حتى على التمرد الذي يجلب اليقين والسكينة والثبات، أنا في حالة حراك طبيعية مع الكون، أتماهى معه في صيرورته ودورانه وحركته، وأتماهى مع حركة الريح والمطر، ولا أمنع الغيوم من التدفق عبر السماء، لكني أشعر بطعم حبات المطر ألمسها بيدي وأتلمس ندى الصباح، وأملأ رئتيَّ بهواء البحار والسهوب، وإن كان من حقي أن أبتعد عن المطر المليء بالغبار والطين والرمال .
- نحن تربينا على ثقافة القطيع، وثقافة القبول بالأمر الواقع، والواقع لا يريد التغيير، ويسعى للثبات حتى على العفن والخراب، وحين أرفض ما أراه يستحق الرفض، أتوق لما هو أجمل، لا أفكر إن كان تمردًا أو رفضًأ أو رغبة في التغيير، لا أفكر بوصف نفسي بصدق.
- – هل الغموض في الشعر مطلوب؟
في الخطابة والنثر والكلام المباشر يجب أن نكون واضحين “بلسان عربي مبين” فاللغة هنا لها وظيفة محددة، في الشعر تختلف وظيفة اللغة، فهي ليست مطالبة بإعلان صحفي صريح، أو لغة يومية واضحة، إنها لغة شعرية تمتلئ بالتأويل والاستعارات والكنايات والتشبيه وأصول البلاغة، والأخطر أن عليها أن تكون موحية وليست مباشرة، لأنها لا تسعى إلى التلقين والوعظ والتفيهم، بل إلى إعادة تشكيل العالم وفق رؤيا شاعرها.
– أعلنت أنك مع التطور الطبيعي للقصيدة العربية ورفضت الانغلاق والتعصب وترى قصيدة النثر منتجًا - طبيعيًا للحراك الشعري هذا يجعلنا أمام شاعر يرفض
- ا
- الاغلاق الفكري والفني ما رأيك؟
*نعم توصيفك دقيق جدًا، ومن هنا قلت إنني مع تطور القصيدة العربية إلى قصيدة النثر، ولست مع الحجر عليها، والتمترس خلف هذه الكليشيهة أو تلك، ولا أعتبر قصيدة النثر هي غاية الشعر، بل هي شكل جديد من أشكال كتابة الشعر، ربما تتطور وتتغير إلى أساليب أخرى، وساعتها سأكون مع التطور، لا أغلق الباب على نمط محدد ولن أسقط في فخ الجمود الذي سقط فيه العقاد، وقلده عبد المعطي حجازي الذي ثار عليه، ولذا أترك باب التجريب مفتوحًا وليس مواربًا ولا خوف على الأجيال القادمة، لنكتب لها ما نتوهم أنه يليق بها، فكل جيل يكتب ما توصل إليه من قناعة، وبالشكل الذي يراه مناسبًا، لكننا لا نضمن الغد فهو ليس تراثًا محفوظًا. - -أنت أردنى من أصل فلسطينى ..هل تحاول أن تقيم وطنا فى اللغة ؟
- نعم صدقت، حاولت واكتشفت أن اللغة تسمح أن تقيم ممالك شتى، وجمهوريات مختلفة، وعالمًا جميلًا تتمنى العيش فيه، لكنني وصلت إلى قناعة أن فكرة أوطاننا العربية أكذوبة مسلوخة من تقليد غربي، أريد لنا أن نتمترس خلفها ونتمسك بها وهي قشرة خارجية لا تمثل عمقًا ولا هوى
- -فى ديوانك الاخير (سأمضي إلى العدم) قلت / فلستُ نادماً على شيء/ ولست طامعاً في شيء/ سرابٌ كلُّ الذي مرَّ بي../ هل تحاول ايجاد بديل عن هذه الحياة التي نحيا؟
- *لعلي، وإن حاولتُ لم أشر الى ذلك، ففي القصيدة وصف للحياة التي أعرف، أما التي لم أعش، فهي التي أتمنى أن أتذوقها، وأعيشها، وأظن أنها موجودة على الأقل في مملكة الشعر.
– بعض قصائدك مشغولة بفكرة ( الموت ) ترى ما سر الإلحاح حول هذه الفكرة؟ - الموت ليس سيئًا لنشتمه، ألم تر أنه حفظ الكثير من السفلة وخلَّدهم، ولو ظلّوا على قيد الحياة لانكشفوا أمامنا وظهر زيفهم وخداعهم وتفاهتهم، فالموت ساهم في تخليد أناس لا يستحقون، فكان رحيمًا عليهم، الموت جميل، انظر إلى آلاف القبور تجدها هادئة ساكنة، وسكانها محترمون، فالموت هو زهرة جميلة، بل غابة خضراء، لا تحتاج إلى سقاية ورعاية، فهو ليس مثل الشجر الذي يحتاج إلى عناية وعمل يومي ليكبر وينمو، الموت هنا أستاذ الدهور وفيلسوف العصور، علم الأباطرة دروسًا لم يتقنها الفلاسفة ولا الشعراء، ولولاه لظلت البشرية تعاني من الحياة أكثر من الموت، ومن شبح الأحياء أكثر من ظلال الموتى. صدقًأ أقول لا أكره الموت، فهو يشير للفقد والفراق، وهذا محزن، لكنه في نظري أخطر لحظة تواجه الإنسان، حين يأتي الموت يصبح إنسانا كاملأ، يتخلى عن شروره وأطماعه، ويتمنى لو يعود ثانية، ليكون عادلًا وطيبًا، ولكن الموت ليس لعبة، فهو لا يمازحنا، يأتي مرة واحدة، ولا يتكرر، وهذه عظمت
– هل تكتب لقارئ معين واضح ام متوهم؟
في الأغلب أكتب لنفسي أولًا، ثم لقارئ متوهم وبعض بعض الذين أتخيلهم.
– وكيف تكتب القصيدة..هل تكتبها فى لحظة واحده أم على فترات؟
*في لحظة واحدة، لا أعرف كيف تألَّف القصائد على فترات، أنا أكتب مرة واحدة، مثل الموت، وفي لحظة انفجار أضع كل ما أحمل، دفعة واحدة، وبسرعة، حتى أنتهي من هذا العبء، وأشعر بعد ذلك براحة ولذة عجيبة حينما أفرغ ما يثقل صدري.
-كيف ترى مستقبل الكتابة وسط قوانين تقمع حرية الكتابة والفكر؟ - ستظل الكتابة هي العتبة الأولى للحرية، مهما ازدادت الحواجز والموانع فبدون الكتابة يتحنط البشر ويصبحون جهلة وقطيعًا، يقاد بلا اعتراض، ومهما طغى الجبروت والقمع، فإن التوق للحرية أكبر من الأسلاك والعصي والممنوعات، والإنسان بطبعه لا يحب الظلم وإن رآه ازداد وعمَّ، قد يخسر كل ما يمتلك من أجل الدفاع عن الفكرة نفسها وليس لغرض آخر.
-بعد هذا المشوار الطويل مع الشعر.. كيف تقيم التجربة؟
*لا زلت أتوق إلى كتابة مختلفة ليست مثل كل المجموعات التي كتبت، كيف؟؟؟ لا أعرف لكن الرضا لا ينام عندي.
ذات مرة كتبت:
عندما وزعت العقول
اختار أبي النزق
وعندما قسمت الأرزاق
اختار النزر
وعندما جاء الرضا
أشاح بوجهه
وخلَّفني.
-أخيرًأ وقفت ذات يوم على اطلال بيتك فى قرية “السَّموع” الفلسطينية المحتلة، في مدينة الخليل واستحضرت الذكريات التى شكلت حياتك كإنسان وشاعر ..ماذا عن هذه الذكريات الممزوجة بحكايات وطن؟
*تعيش معي كل يوم، أتمنى لو عدت ذلك الصبي الذي خسر كل شيء أتمنى لو رجعت إلى مرحلة الخوف والقلق تلك وبقيت تحت جناحيّ أبي وأمي، ولكن كل شيء مضى، ولم تبق الا الذكريات المؤلمة، والخسارات الحقيقية ومع ذلك أكتب وأكتب لعل الشعر سرير المتعبين، وملاذ الخاسرين.
الخرطوم