عندما تحرك الضباط الأحرار يوم 23 يوليو 1952م سموا الحدث حركة مباركة، ما حققت الحركة من أعمال مهمة أهلها أن توصف بالثورية لأنها:
- ألغت نظام حكمٍ ملكيٍ فاسدٍ، وذا أصول غير مصرية.
- ألغت نظام إقطاع في ملكية الأرض الزراعية وحصر ملكية الأرض في طبقة عليا قليلة العدد.
- أجلت القوات الأجنبية ـ البريطانية ـ من أرض مصر.
- امتلكت القرار الوطني في السياسة الخارجية، بينما كانت خاضعة لنفوذ سفارات.
- وبالنسبة للعلاقة بالسودان تخلت عن السياسة الخديوية الباشوية التي تمسكت بالسيادة على السودان، رغم إرادة أهله، وتجاوبت مع إرادة الشعب السوداني، واعترفت له بحق تقرير المصير.
ولكن يعاب على هذه الحركة أمور مهمة هي:
أولاً: اتخاذ الوسيلة الانقلابية للسلطة جعلها تركن لاستخدام القوة للمحافظة عليها، وبالتالي إقامة نظام استبدادي، ومقاومة الانتقال لنظام ديمقراطي.
ثانياً: استقلال القرار الوطني في الشأن الدولي كان موقفاً صائباً، وهذا ما أدى إلى موقف الحياد الإيجابي، ولكن في مرحلة لاحقة انحازوا إلى المعسكر الشرقي، ورهنوا البلاد لمطالب الحرب الباردة، وبعدها انحازوا إلى المعسكر الغربي بصورة سافرة، وصاروا كعب أخيل الصمود العربي في وجه المطامع الإسرائيلية.
ثالثا: التزموا بالحياد لدى تقرير المصير السوداني، ولكن أخلفوا الوعد، ودعموا المطلب الاتحادي بوسائل غير مشروعة، وأسسوا علاقة مع حزب سوداني، وهذا ما أثر سلباً في الحركة السياسية السودانية.
رابعاً: عدم المشاركة في القرار السياسي جعله عرضة لتصرفات انفعالية غير مدروسة، وأوقع ذلك البلاد في تصرفات أتاحت الفرصة لإسرائيل أن تنزل على البلاد هزيمة ماحقة غلفوها بعبارة خادعة: النكسة.
خامساً: النظام الذي يتخذ نهجاً استبدادياً حتماً يصعد القرار فيه إلى قمة هرم السلطة، وبالتالي حكم الفرد، ما وسع دائرة الإقصاء حتى شملت من وفر للحركة صمام أمان، ثم صار أول رئيس جمهورية لمصر العربية: المرحوم اللواء محمد نجيب. لذلك أشيد برد اعتباره أخيراً، وأهنئ الشقيقة مصر رئاسة وحكومة وشعباً على ذلك.
سادساً: ولكن من آثار تلك الحركة دائمة الضرر أنها سنت سنة سيئة اتبعتها حركات سياسية ذات طموح كبير وشعبية قليلة للقفز على السلطة عبر الآلية الانقلابية، وتسمية روادها ضباطاً أحراراً، وتكوين مجلس لقيادة الثورة حذوك النعل بالنعل.
هذه السنة جعلت لفيفاً من الضباط يخرجون من نهج الانضباط المطلوب للمهنية العسكرية إلى أماني المغامرات الانقلابية. كان لهذه السنة أثراً مستمراً في إفساد كثير من القوات المسلحة، وأفرزت قيادات انقلابية مسؤولة عن إفساد مزدوج للعسكرية وللسياسة.. هكذا كان حال أتباع هذه السنة في الشام، وفي العراق، وفي السودان الذي أجهض تطوره السياسي المايويون( انقلاب جعفر نميري) والإنقاذيون( انقلاب عمر البشير).
شقي السودان بثلاثة انقلابات: الأول لم يكن ثورياً بل استلم من رئيس وزراء منتخب، وكان نهجه في السلطة تقليدياً، أما الانقلابان الثاني والثالث فقد اتخذا نهجاً راديكالياً مسكوناً بشعارات أيديولوجية حاولت القفز فوق الواقع الاجتماعي، وأحدثت أضراراَ سار بذكرها الركبان.
في كل الانقلابات المذكورة كان موقف جماعة يوليو المصرية مسانداً للإطاحة بالديمقراطية في السودان: باركوا انقلاب نوفمبر 1958م الذي وصف نفسه أسوة بهم بأنه (حركة مباركة) فأنعموا عليه بلقب (الثورة). وكان دورهم في انقلاب مايو 1969م أكبر وأهم وتأييدهم أضخم. وحتى انقلاب يونيو 1989م أيدوه بحماسة وتبنوه فلما اشتد ساعده رماهم.
القدوة الانقلابية هي من أسوأ ما اقتدى به الطامحون من أحزاب سياسية طموحها يفوق شعبيتها، وما اقتدى به عسكريون فارقوا الانضباط المهم للمهنة، وأفسدوا السياسة؛ لأن مبادئ الفلاح فيها لا تقوم على الأمر والنهي.
الأحداث المهمة دروس ينبغي الاستفادة منها فمهما كان فيها من نجاحات وإخفاقات فالعبرة بها مطلوبة.
لا شك أن مهندسي انقلابات السودان الثلاثة قد رفعوا شعارات براقة لكنهم جميعاً اكتووا بالنار التي أوقودها وندموا على إشعالها:
وَمَن يَجعَلِ الضِرغامَ بازاً لِصَيدِهِ تَصَيَّدَهُ الضِرغامُ فيما تَصَيَّدا
نعم حققت حركة 23 يوليو 1952م أهدافاَ ثورية، ولكن مجافاة المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون في أسلوب الحكم حول القوات المسلحة إلى حزب السلطة، ووضع القرار في حكم الفرد. حزبنة القوات المسلحة تمت على حساب الانضباط المطلوب للمهنية العسكرية. وأما حكم الفرد فقد كان وما زال وسوف يظل دليلاً على أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة:
رَأْي الجَمَاعَةِ لا تَشْقى البِـلاد به رَغْم الخِلافِ وَرَأْي الفْردِ يُشْقِيهـا
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِۗ)[1].
[1] سورة يوسف الآية (111)
الكاتب:
*رئيس حزب “الأمة القومي” وإمام كيان “الأنصار” في السودان.
* رئيس المنتدى العالمي للوسطية.
* آخر رئيس وزراء منتخب في السودان.