غادر أرض الناس هذي، الشاعر والمثقف الفاعل، مبارك بشير الشيخ..
فأي لوعة، وأي غياب..
عاش بيننا برقة غير مألوفة، وبإنتاج أدبي خصب و روح تسري بين الناس كحفيف الرياحين..
عرفته أول أمري في أوائل الألفينيات بمعية أستاذنا كمال الجزولي، أيام كنا نعمل على إعادة تأسيس إتحاد الكتاب السودانيين فيما عُرف وقتها بالميلاد الثاني، لتتوالى لقاءاتنا بدار الأستاذ كمال، وبمركز عبد الكريم ميرغني، وما لمست فيه إلا نفساً هادئة وعقلاً يمور بالفكر والمراجعة والنقد الحصيف.
صاحب وجه ساكن، لكن فيه فيوض من الوسامة التي تترجمها عيناه الآسرتان.
عرفته قبل ذلك كاتباً، أتابع بشغف ما يتناوله من قضايا بكتابة رصينة في الصحف اليومية.. وكان بجانب ذلك أكاديمياً صاحب مداخل فريدة للمعرفة وإنتاجها..
ومن سيرة د. مبارك بشير أنه حصل على إجازة الدكتوراه في السياسات الثقافية والتعليمية فترة إقامته العلمية في مركز الدراسات الآفريقية والشرق أوسطية بجامعة لايبدزغ بألمانيا.. مشتغلاً في زمانه ذاك بإحدى أهم القضايا التي لا زالت تلح علينا بإجلاء النظر إلي يومنا هذا والسودان يستدير مرة أخرى ليواجه الدنيا.. وما أدراك ما السياسات الثقافية والتعليمية!
لكن أكثر ما ربطني بمبارك بشير كان الشِعر.. شِعره المنسوج بفرادة ولطف، ورقة تشبه صاحبها..
أذكر الآن [ عُرس الفداء ] – القصيدة التي سارت بها الركبان، المحمولة بصوت الفنان محمد ودي، المحفوفة بالزخم التاريخي لثورات السودانيين الأخاذة على الظلم والإستعمار والديكتاتوريات الوطنية.
كانت قصيدة عاطفية عابرة للطبقات الكفاحية التي شيدها أهل السودان عبر الزمان… وفي مُفتتحها مشهد عظيم:
نلتقيك اليوم ياوطني
لقاء الاوفياء
قد تنادينا خفافا كخيول الريح في جوف العتامير
لك يا ارض البطولات..
وميراث الحضارات..
نغني اليوم في عرس الفداء
هاهنا: يبتسم النهر القديم
لبعانخي ولتهراقا وللمهدي
لعلي عبداللطيف
ولعبدالقادر ود حبوبه
للقرشي
للصمود العذب في كرري
وللموت الفدائي العظيم
نذكر الان جميع الشهداء
كل من خط علي التاريخ
سطراً بالدماء
نذكر الان جميع الشرفاء
كل من صاح في وجه الظلم: لا
(..)
كانت معركة كرري في صبيحة 2 سبتمبر 1898م بين قوات المهدية السودانية والقوات البريطانية مع مساندة قوات مصرية في كرري شمال أم درمان واحة في تاريخ الكفاح المسلح السوداني، ونشيداً عالي العذوبة في إئتلاف السودانيين، وإشراقة في الوهبِ والجسارة ورفض الضيم حتى الرمق الأخير..
يومها مات منا 12 ألف قتيل، فجرت أجسادهم المدافع والطلقات النارية السريعة المستندة على سلاح المكسيم، في مذبحة لو أعاد قراءتها العالم لبكي وندّ لها جبينه..
كانت هزيمة عسكرية، حاولت الرواية الشعبية أن تُجملها، وبعض الشعراء بإعادة تقديمها كنصر! لكن شاعرنا مبارك حسن بشر أورد حيثياتها بنصاعة الشاعر، واصفاً لها: بالصمود العذب، والموت الفدائي العظيم..
فأي قريحة، وأي نظر؟
وأغلب ظني أن مبارك أول من أناخ رحال قصيدته عند إسم [علي عبد اللطيف] السوداني الفذ، والإنقلابي صاحب الرؤية، و مفرزة السودان الجديد..
فعلي عبد اللطيف محطة مرت بها قطارات المؤرخين السودانيين بسرعة، وعَجَلٍ معيب..
على إيقاع المحبة االدؤوب، يسير مبارك على بحر قصيدته، مُحدثاً السودان:
نحن ابناؤك
في الفرح الجميل
نحن ابناؤك
في الحزن النبيل
ونغني لك ياوطني..
كما غني الخليل
مثلما صدحت مهيرة
تلهب الفرسان جيلا بعد جيل
ونغني لحريق المك
في قلب الدخيل
للجسارة: حينما استشهد في مدفعه عبد الفضيل
(..)
و يا لله، ويا لوجه عبد الفضيل الماظ، الذي أخرجه شاعرنا من ركام المدافع، والجُدُر المُحطمَة، إلى سلسبيل الذاكرة والغناء العذب!
أي قلب يا مبارك، وأي ذاكرة؟
إن كان صدوح الشاعر بما ينسجه من كلام تتراقص فيه القافية، وبما يلهب الأفئدة، فإن مبارك حسن بشير فعل، لكنه – كذا – أعاد تصحيح الصُور، وتلوينها، وإحياء من قتلهم السكوت والإغفال والصمت.
كان آخر قوله في تلك القصيدة:
سوف نفديك دواما
ونناديك هياما
فلتعش حراً أبياً
في مهابة..
اللهم تقبل مبارك بشير أحسن القبول، واجزل له العطاء واجعل روحه ملأى بالسرور، واكرم مأواه..
لقد فقدنا شاعراً ومثقفاً وأكاديمياً بارزاً، باراً بقضايا وطنه، حسُن المعشر، رقيق الحاشية..
كل التعازي لأسرته وللكتاب والأدباء السودانيين، ولعموم أهل السودان قاطبة، على الأرض وفي المنافي.
اللهم توفاه برحمتك وأنت من قائل:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا
وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا
فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ
وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
والحمد لله رب العالمين..
*الصورة إلتقاط الأستاذ عصام عبد الحفيظ