شُكلت الحكومة الانتقالية الجديدة التي يغلب عليها المشاركة الحزبية بعد توافق سياسي، وفق برنامج ما تبقى من الفترة الانتقالية لمواجهة تحـديات الانتقال، وقد بـرز جـدل كيفية التوفيق ما بين البرامج الحزبية وبرنامج الحكومة وانسجام الوزارة كأهم التحديات، وفي خضـم هذا الجدل أثير تساؤل: كيف ستتصرف وزيرة الخارجية الدكتورة مـريم الصـادق نائبة رئيس حزب الامة القومي حيال موقف الحزب ضد التطبيع مع إسرائيل، وموقف الحكومة الذي ذهب خطوات في اتجاه التطبيع؟
هذا الجدل في ظاهره صحي ومطلوب، ولكن إذا تعمقنا في مناقشة هادئة للاشتباك بين مقاربات البرنامج الحزبي وإكراهات الحكومة خاصة حزب الأمة القومي، يلزمنا البحث عن طبيعة الحزب بوصفه حزب برنامجي ديمقراطي بلا قيود أو تحيـزات ايديولوجية، ينتهج القومية والديمقراطية والانفتاح المبصر في تحقيق غاياته وأهدافه، سيرشدنا التحليل العميق الي انتفاء أي تناقض وتضارب، فتجربة الحزب حبـلى بالمواقف المتزنة في مساحات الديمقراطية التي قارب فيها بين مواقفه السياسية القائمة علي التدخلات التكتيكية التي تتسق مع مرجعيته ورؤيته الإستراتيجية، مثل قبوله خـوض سباق انتخابات 2010 والانسحاب منها بالتنسيق مع القوى الوطنية عندما أدرك أنها ترسخ للاستبداد وتفتقد لمقومات الانتخابات الحرة والنزيهة، وأيضا مقاطعة انتخابات 2015 الصورية كموقف وطني لذات المبررات التي تعطي الطغيان شرعية، وفي الحالتين كأن موقفه مؤثراً بنزع غطاء الديمقراطية علي الممارسة الديكتاتورية، وكذلك طرح الحزب مشروع الخلاص الوطني الذي حدد ضـرورة التغييرهدفاً إستراتيجياً وسائله وتكتيكاته الحوار القائم علي تفكيك دولة النظام المباد لصالح دولة الوطن، والثورة ذات المقاصد الواضحة، وقد عمل علي الخيارين باتزان حتى تحقق التغيير عن طريق ثورة ديسمبر المجيدة.
لقد تلقى الـرأي العام السوداني الاتفاق السوداني الأميركي في نهاية عهد الادارة الأميركية السابقة بشي من القلق وقراءة مضمونه كصفقة (رفع العقوبات الاقتصادية واسم السودان من قائمة الـدول الراعية للإرهاب مقابل التطبيع مع إسرائيل)، هذا الاتفاق كانت تداعياته انقسام داخل الحاضنة السياسية، فتبنى الحزب موقفاً متزناً، إذ رحب بتحسن العلاقة مع أميركا ورفض التطبيع، كان حينها الحزب داعماً للحكومة الانتقالية، وليس جـزءاً منها.
الآن بعد أن شـارك الحزب في الحكومة الانتقالية بعد التعديلات في الوثيقة الدستورية لتضمين اتفاق جوبا للسلام، والتي أكد الحزب سعيه بالمشاركة استعادة دور الأحزاب السياسية المحوري في إنجاح الفترة الانتقالية، وذلك بما يتكئ عليه الحزب من إرث وتجربة وآفق سياسي للعمل من داخل إطار النظام الانتقالي.
قما هـو موقف الحزب بعد مشاركته وتوليه ضمن الوزارات حقيبة الخارجية؟ ذهب كثيرون الي ان هذا الموقف يمثل إحراجاً للامة القومي، فهل يضطر إلى مسايرة موقف الحكومة، ويصادم ثوابته ومرجعيته المقاصدية والوفاء لقضايا الأمة والإنسانية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ويدخل في صراع مع الحكومة وينتهي به المطاف للانسحاب منها؟
ولكن الحقيقة المجردة أن الحزب رفض خطوة التطبيع هذه في بدايتها عندما أقبل عليها رئيس مجلس السيادة كحدث فردي معزول عن المشورة والتوافق السياسي، ولكن عندما ارتبط ملف التطبيع باستحقاقات وشروط الادارة الأميركية لرفع العقوبات وإسم السودان في قائمة الـدول الراعية للارهاب وتحسين العلاقات الثنائية بين البلدين بما يحقق مصالح السودان، نخرط الحزب في نقاش واسع مع الحكومة والحاضنة السياسية أفضى الي أن قرار التطبيع من عدمه شأن ينظر فيه المجلس التشريعي والقـرار الديمقراطي.
هذا الموقف تبناه رئيس الوزراء بموافقة حزب الامة القومي وكل القوى السياسية، وهذا ما أكد عليه الحبيب الامام الصادق المهدي، طيب الله ثراه، في أكثر من مناسبة، فإرجاع المسألة الي ديناميات العمل التشريعي هـو اعتراف بنتيجة الممارسة الديمقراطية. هذا الموقف يفتح الباب واسعا أمام الحزب وهيئة شؤون الانصار – التي تتوافق معه في المرجعية الفكرية والاخلاقية – لإدارة حـوار جاد حول جـدوى التطبيع، وإلى أي مدى يصادم المصلحة الوطنية، وإقناع أعضاء المجلس التشريعي (المأمول تشكيله قريباً) للعدول عن الخطوة، والارتقاء الي رغبة الأغلبية في التعامل مع هذه المسألة.
كما أشـرنا آنفا ليس هناك تناقض بين موقف الحزب من التطبيع وإكراهات الحكومة التي فُرضت عليها تفاهمات التطبيع.. فالحزب أعلن بوضوح في بياناته ترحيبه ودعمه الاتفاق السوداني الأميركي حول قضايا رفع العقوبات الإقتصادية/ وشطب اسم السودان من قائمة الـدول الراعية للإرهاب، مع تحفظه على ربط الاتفاق بالتطبيع، عطفاً علي موقف الحزب الداعم للحكومة الانتقالية حتي تكمل مهامها الدستورية، وتأكيده احترام الممارسة الديمقراطية، وبالتالي فإن تحلل الحزب من تدبيـر الحكومة، وتشبثه بموقفه المبدئي حول القضية الفلسطينية ورفض سياسة التطبيع قد يبدو ظاهريا تمايـز بين برنامج الحزب وبرنامج الحكومة، ولكن الذي يتابع مواقف الحزب في المعارضة والحكومة يدرك انه تمييز (ليس تمايز) ما بين العمل في الحكومة المسئولة عن قراراتها وفق صلاحياتها الدستورية وسياستها الخارجية المعتمدة من مؤسسات الدولة التي ينفذها المسئول الحكومي إلتزاما بقرارات الحكومة، وبالتأكيد الحزب لا يتحمل القرارات التي لا تصدر عنه بل يتخذ القرارات والمواقف التي يراها وينظم الفعاليات السياسية التي تعبر عنها. هذا مع الاخذ في الاعتبار إن التطبيع ضمن تقديرات الحكومة لمصلحة الدولة وحكم الضرورة فلا يقف الحزب ضد المكاسب التي قد تجنيها وفي ذات الوقت يحذر من الأضرار الناجمة ويعبر عن موقفه داخل جلسات المجلس التشريعي.
وهذا الوضع ليس غريبا إذا نظرنا الي التجارب الماثلة بالمنطقة العربية في التوفيق ما بين مقاربات البرنامج الحزبي واكراهات السلطة، فحزب الله اللبناني تحول مفهومه للمقاومة عدة مرات حسب موقعه في المعارضة أو الحكم، وحركة حماس الفلسطينية أقدمت علي تحولات في خطاب المقاومة حسب وضعها تجلى ذلك في حملتها الانتخابية وإنخراطها في الحكومة، وكذلك حزب العدالة والتنمية المغربي في موقفه المناهض للتطبيع وقبول قرارات الملك بالتفاهم مع إسرائيل رغم التباين الواسع داخله.
من نافلة القول إن البرامج الانتقالية قائمة علي التوافق السياسي، وفي مجملها برامج تكتيكية تخضع للتنازلات الكفيلة بحماية الفترة الانتقالية من الشطط والتطرف والاستلاب، وفي الوقت وضع التدابير التي تخدم الهدف الاستراتيجي وهو بناء التوافق حول المشروع الوطني الديمقراطي، ويرجع ذلك بالأساس الي تعقيدات وإكراهات ومثالب وعدم اليقين والأخطار التي تمر بها مراحل الانتقال عموماً، وتُهـدد النسيج الوطني والاجتماعي وكيفية إدارتها بحصافة لصالح الأهداف الوطنية الإستراتيجية في ظل تـوازن القوة، دون ولـوج الخط الفاصل بين الإستراتيجي والتكتيكي في فكر ومنهج الحزب والتزود برؤيته التاريخية، وقدرته علي التعامل مع المتغيرات والتحولات الانتقالية.
كما أن أشكال العمل الحزبي في أي مرحلة يجري الاتفاق عليها بين القوى الوطنية، وذلك بغية ضبـط إيقاع الفترة الانتقالية وبلورة رؤية مشتركة للعمل السياسي من شأنها تصـريف المشروع الوطني الديمقراطي بتوافق وانسجام.
خلاصـة القـول إن الموقف المعلن للحكومة علي لسان رئيس الـوزراء هـو أن مسألة التطبيع من عدمه شأن يخص المجلس التشريعي، وأكد على ذلك رئيس مجلس السيادة، هذا الموقف يتسق تماما مع ما يطرحه حزب الأمة القومي وبقية الاحزاب الرافضة للتطبيع ومطالبة بالاعتراف بالحق الفلسطيني والالتزام بالشرعية الدولية، ووقف الاستيطان وإقرار اتفاقية السلام بين الدولتين، وتحجيم العدوان الاسرائيلي علي دول المنطقة، بمعنى أن أي تراجع عن هذا الموقف يمثل مـأزق الحكومة الانتقالية على المستوي السيادي والتنفيذي أولا، وليس مـأزق الحزب الذي كسب الحكومة لصالح موقفه حتي اللحظة، وعند اتخاذ المجلس التشريعي قراره الديمقراطي (مـع أو ضـد) بالتأكيد فإنه سيكون قراراً ملزماً لكل القوى التي تؤمن بالديمقراطية، وأولها حـزب الأمة القومي. (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ).