يفسر احد علماء الاجتماع الغربيون النزعة الرأسمالية في الغرب والشره لكنز الأموال وفي نفس الوقت الزهد فيها، بثقافة دينية ضاربة في القدم، تصور القربى من الله والفوز بالنعيم يكمن في كنز الأموال من أجل العبور بها الي الجنة في يوم المعاد. هذا التفسير يشير إلى أن الثقافة المجتمعية مهما كانت قديمة فهي تتسلل عبر الروح والتوريث، عبر القرون والسنوات لتهيمن على الثقافات الحديثة وتحولها لايدولوجيات سياسية واقتصادية مهيمنة. هذا البعد الثقافي التاريخي في نشأة الرأسمالية يمكن ان يفسر به ايضا الاسقاط التاريخي لنشأة العلمانية وهيمنتها حاليا في دول الغرب، وهي تفاسير اجتماعية خلاصتها ان الاختلاف الاجتماعي التاريخي بين شرائح البشر المختلفة، مؤثرة ومهيمنة بصورة غير محسوسة، تظهر للعيان فقط عند البحث في الجذور.
هذا الحديث يقودني إلى استخلاص ان هذه الصيغ الايدولوجية وان سعت لها الشخصية العربية فهي ليست بالضرورة صالحة للشخصية الشرقية ولا قابلة للتكيف معها، وأن هذا جميعه في نهاية الأمر صراع حضارات، أو صراع موروثات تاريخية تحملها الجينات عبر مئات وآلاف السنوات وتبرز الآن او في المستقبل عبر التكيف مع حضارة ما او رفضها، فالقيم والطباع لا يمكن اكتسابها بسهولة بواسطة المجتمعات وإنما تؤهلها لهذا الاكتساب عوامل تاريخية وذاتية متعلقة بالقبول الذاتي والمجتمعي والطباع المزروعة في وحدة المجتمع او كما يسميها علماء الاجتماع (البنى الاجتماعية).
هذا الحديث يثير جدلا ليس جديدا حول الطريق نحو الديمقراطية في بلادنا وحول ثقافتنا السودانية وموروثنا القيمي وما يحتويه من مؤهبات للديمقراطية والشراكة، فالاكيد اننا شعب ثوري، ثرنا في عهود مختلفة في التاريخ القديم، وثرنا في العصر الحديث ثلاث مرات على أنظمة دكتاتورية، ولكننا لم نكن ننجح في كل مرة انتصرت فيها الثورة في اقامة عقد شراكة صلد بين جميع أبناء الوطن يوفر الديمقراطية والفرص والمساواة ويصيغ عقود اجتماعية مرعية لتبادل الحكم والسلطة، وهي شراكة وعقود انجزتها امريكا منذ أكثر من مئتي سنة، وانجزتها اوربا الغربية وشرق أوربا، وبعض دول أمريكا اللاتينية ودول اسيا، وفشلت فيها بامتياز دولنا العربية والدول الإفريقية! فهل الأمر مجرد صدفة؟
هل ما نعاني منه في سبيل توطين السلام والوحدة والديمقراطية هو نتاج إسقاطات تاريخية في اعماقنا، اسقاطات موروثة من الاسلاف عبر السنين ومهيمنة على العقل الباطن فينا ولكننا لا نعلم، ولا نسعى لنعلم، ونكابر لتغيير الحقائق عبر الجزم بأن الأسباب المانعة ليست سوى أسباب حديثة وليست قديمة، ظاهرية وليست باطنة، مشاهدة وليست مخفية، يمكن التغلب عليها بالطريقة الثورية وليس بالتغيير التدريجي، بالعبور فوقها وليس الاعتراف بها؟، هذه دعوة لإعادة قراءة النسيج السوداني عبر دراسات إجتماعية تاريخية تصنف القيم الموروثة والطباع التاريخية وتستكشف لنا الأسباب التي تجعلنا أكثر ميلا للاستعلاء والقهر وأقل نزوعا نحو الديمقراطية وحكم القانون.
sondy25@gmail.com