رحل علي المك عن دنيا الناس في بواكير التسعينات ، في العام 1992 . كانت الدنيا إنقاذية والخرطوم يُنِيمُونها عنوةً ، عساكر الإنقاذ ، كما في تساؤل الطيب صالح الشهير . رحل علي المك وترك خلفه سيرة ثقافية باذخة وكتاباتٍ رصينة ، كان ذلك في كتاباته عن ميثيولوجيا الهنود الحمر أم في حفرياته في ثقافة السودانيين وفي سعيه بين الناس من جيله بالثقافة الفاعلة في مساهمته في الكتابة بصحف السودان وقتها وإذاعاته وتلفزيونه وبقسم الترجمة في جامعة الخرطوم وبدار النشر في ذات الجامعة .
أعرض هنا لكتاب صغير أو كُتيّب إن شئت ، كتبه علي المك عن أبي داوود . في 40 صفحة كتب علي المك أو رسم بالكلمات بعض حكاياته مع السواد الأعظم عبد العزيز محمد داوود ، أبو داوود كما سار اسمه بين الناس في سبعينات وثمانينات الخرطوم . ” عبد العزيز أبو داوود ” هو اسم المخطوطة ، والغلاف مزين بصورة بورتريه لعبد العزيز تتكرر في داخل الكتاب في بداية كل فصل أو باب ، الصورة بالأبيض والأسود لواحد من فناني السودان وتشكيلييه العظام ، الذين لو كانوا في مكان غير السودان لأقيمت لهم المعارض ولكان لهم شأن آخر : عماد عبدالله ، إنما ماذا نفعل مع السودان !
هذه كتابة عجيبة ، كتابة سودانية خالصة لوجه المحبة والألفة كما ينبغي لونسة السودانيين أن تكون . كتابة في محبة أبي داوود وقبل ذلك وبينه في محبة شوارع الخرطوم ، زقاق العصاصير وحي الختمية وزقاقات شمبات وخيران المطر الموسمية . في خاتمة الكتابة يقول علي المك في وصف أبو داوود : ” كان لأرواحنا المكتظة بالأحزان الجافة مطرة الفرح الأولى ، وكان هو الذي اخترع القعدة وصيّر لها نظاما بديعا ، وإليه يكون الفضل في أن نتعلم عنه كيف تكون الصداقة ، وكيف يكون الفن والسلوك القويم أمراً واحداً .. عبد العزيز ” .
ن العجيب أن أرواحنا ، السودانيون ، لازمها اكتظاظ الحزن الجاف ذاك ، غير أن حباً يصعب تبريره لتلك الشوارع وتلك الحكايات لطالما هوّن على ناس السودان شظف العيش وخيانة الحكام وخيبة الأحلام . كان أبو داوود غير كونه المغني المُجيد ، واحداً من ثيمات المدينة أو أيقوناتها بلغة اليوم ، ذلك الصنف من الناس الذين غير طرفهم وحكاياتهم ينسج الناس طرفاً وحكايات ثم ينسبونها إليهم . كان أبو داوود في بصيرة علي المك قوِيَ إيمانٍ أن غناءه قادر على أن يجعل في الناس شيئا من السعادة ، لذلك كان الناس يحيطون به ما وجدوه ، في المنطقة الصناعية وفي الأسواق وفي صف البنزين ! حكى علي المك في الكتاب أنه في عصر انعدام البنزين ، أمضي ، أبو داوود ، الليل في سيارته ينتظر مقدم صباح الأمل ( والتعبير لعلي المك بالطبع ) والصف طويل لا تبلغه عين ( ما أشبه ليالي السودانيين ببارحاتها – والتعبير هنا من عندي ) ، المهم ، غنى أبو داوود للمنتظرين الذين وقتئذ كانوا قد طبخوا حلة جيدة وأكلوا وشربوا ! وكذلك فقد كانت صفوف الرغيف في حضرة أبو داوود تتحول إلى ضحك وغناء وشيء من المسرة قال علي المك . إنما لك أن تتأمل في حال هذه البلاد وأحوال السودانيين الذين لازمتهم الصفوف وما زالت تلازمهم ، فكتاب علي المك هذا مكتوب في النصف الثاني من ثمانينات القرن الفائت !
والحق أن هذا كتاب أو كتيب في محبة البلاد وناس البلاد وإن بدا أنه كتاب في محبة أبي داوود . ذلك سحر الكتابة وسر صنعتها . وعلي المك هنا قد أمسك بتلابيب الاثنتين : الصنعة والسحر . علي المك نفسه كان عاشقاً كبيراً لأمدرمان ولعموم البلاد . لذلك لم يكن من الغريب أو النشاز أن يكتب عاشق البلاد الكبير هو أيضاً ( محجوب شريف ) في رحيل علي المك قصيدته تلك الرهيفة : ود باب السنط ، والدكة والنفاج ، والحوش الوسيع ، للساكنين أفواج !
تابة علي المك هنا كتابة لونسة السودانيين ، كتابة تشابه ونستنا ورؤيتنا للأشياء ، ثمة ونسة تخصنا وحدنا ، ثمة نظرة للعالم وللأشياء تخصنا وحدنا . كنت دائما ضد تلك الدعوات للانتشار التي تتحسر على عدم انتشار أغنياتنا أو كتاباتنا لدى العرب . الحقيقة كنت دائما ما أرى أنه لو تسنى لأغنياتنا وكتاباتنا الانتشار والوصول للسودانيين أكثر لكان ذلك أفضل وأكثر فائدة . وما فائدة أن يعرف العرب عن عاطف خيري أو حتى الطيب صالح وهناك من السودانيين من لم يخبرهم عاطف خيري عن السيدة الساكن وجهها وعلى صدرها الشغب ! ومنهم من لم يقرأ للطيب صالح حكمته تلك البليغة في إنك لا تدخل المدن ، ولكنك تغوص في أعماق ذاتك بحثاً عن صور المدن في خيالك ! يا إلهي ويا مولاي ! يتوق الانسان إلى التعرف على الآخر وإلى أن يتعرف عليه الآخر ، وليس ثمة شك في أن انتشار الطيب صالح على سبيل المثال قدم للبلاد مالم تقدمه وزارات الخارجية أو الثقافة إنما الحديث ذو شجون .
تحفل المخطوطة بالبديع من افتراعات علي المك في اللغة واجتراحات التشبيهات الباهرة والإحالات إلى عميق وعي السودانيين الجمعي وثقافة النكتة وغناء الحقيبة والقعدات . من ذلك قوله حين علمهم برحيل أبو داوود : انفجرت السيارة ، نحن بداخلها ، تبكي ; لقيت عبدالله العربي أمامي جالسا يتيم الكمان ; والخرطوم بحري دخلت بيت الحبس ! ومن ذلك أيضاً : ضحكتُ بصفاء جعل الاكتئاب المر يتساقط من خيوط الجلابية .
كان أبو داوود سودانياً قحاً ، عارفاً ومحيطاً ما يكفي بأنثروبولوجيا وبسوسيولوجيا زقاقات المدن والقرى وقت كان يمكن التمييز في السودان بين القرى والمدن . وكان عبد العزيز ذاته صاحب طرفة لا تخفى وتشبيهات بديعة ، أنظر إليه يسمي الكمونية بأخت العذارى ! ويوم كتب إلى البنك الزراعي يلتمس شطب قرضه بعد فشله في الزراعة قال لهم : ” لقد أنشأت هذه المزرعة أُمني نفسي أن أكون عزيز كافوري فصرت عزيز قوم ذل” . والطرائف عن عبد العزيز وسرعة بديهته كثيرة ، تحفظ الذاكرة الشعبية إلى يومنا هذا الكثير منها ، ولعل بعضها منتحل ، ويثبت علي المك الكثير منها كذلك في الكتاب . ومن طرائف ما ذكر في الكتاب أن عبد العزيز كان سيغني ثنائياً مع الفنان عبد الكريم الكابلي في حفل يحضره الزعيم اسماعيل الأزهري ، فقال عبد العزيز موجهاً حديثه للزعيم الأزهري : ” حيغني ليكم اتنين من أولاد بحري ، الكابلي وأنا ، بلاك اند وايت ” .
إن كان ثمة مسألة بديعة انتبه إليها علي المك ، وربما آخرون غيره بالطبع ، ولكننا هنا نتحدث عن ما كتبه علي المك ، فهي انتباهه إلى أن أغنية برعي محمد دفع الله هي بلا أدنى ريب الأغنية السودانية ، وأن تلك اللحون هي التي جاءت بعبد العزيز إلى عالم الغناء وكانت الثورة وكان فتح الغناء المبين ، والتعابير كما هي لعلي المك . أما عبد العزيز فقد كان في إمكانه ، وكثيراً ما فعل ذلك ، أن يقيم قعدة كاملة دون آلة سوى علبة الكبريت !
لا تستطيع وإن اجتهدت الانفكاك من أسر أسلوب علي المك الأخاذ في هذه الكتابة ، وأظن أن ما كتبه علي المك في هذا الكتيب عن أبو داوود هو من أجمل وأرق وأعذب ما كتب علي المك ، ذلك بالطبع دون إهمال لمنجزات علي المك الثقافية الأخرى ، ولكن علي المك هنا يكتب بأسلوب ود أمدرمان الحكّاء ، بأسلوب من خبر مزاج السودانيين فطفق ينعي لهم أو يحدثهم عن عبد العزيز صديقه الحميم الفنان الذي يعرفونه ولكنهم رغم ذلك ربما لم يعرفوه . يكتب علي المك هنا عن تفاصيل المدينة ، يظلم السودانيون كثيراً أدب المدينة عندهم بحنينهم المبالغ وغير المبرر إلى القرى ، وربما ساهم في ذلك مؤخراً تمدد الريف على المدينة لظروف الققر والنزوح وأسباب أخرى مختلفة ، أما قبل ذلك فربما ساهم فيه فرض القرويين لثقافتهم على المدينة بدعاوى الأصالة والقيم مقابل مدنية سكان المدن المرتبطة في أذهان جحافل الريفيين بسلوك المستعمر الراحل والحمرة الأباها المهدي . لاحظ شيئاً من ذلك من قبل الأديب محسن خالد : ” نحن للأسف في مجتمع يستعمر القيمية فيه الجهلاء ” . على كل حال قَصَد علي المك ذلك أم لم يقصده فقد كتب سفراً بديعاً في وصف أحوال المدينة ، حي الدناقلة ، تلفزيون السودان وهو ينقل منافسات أولمبياد لوس أنجلوس ، المدبغة الحكومية حيث كان يعمل الشاعر عتيق ، أسماء عازفي الالات الموسيقية ناس برعي محمد دفع الله وبشير عباس وسيف النصر محمد عثمان عازف الكمان وغيرهم وغيرهم ، شوارع المنطقة الصناعية ودار الرياضة وتشجيع فريق المريخ ، ناس الهاشماب واتحاد طلاب جامعة الخرطوم ، ذلك سفر في محبة الناس والمدن والبلاد التي كلما ابتسمت حط على شفتيها الذباب كما في قول عاطف خيري ، والسلام على علي المك .
ولد علي المك في العام 1937 في أمدرمان وتوفي بالولايات المتحدة الأمريكية بنيو مكسيكو في العام 1992 . ومن الحكايات عنه أنه عندما انتقل للسكن في بري بالخرطوم في واحد من بيوت جامعة الخرطوم ، كان يذهب كل يوم في الصباح الباكر إلي أمدرمان ليشرب القهوة هناك ، ثم يعود لعمله في جامعة الخرطوم . كتب الشاعر الصادق الرضي أن الشاعر الفلسطيني ، بل العالمي ، الكبير محمود درويش عند زيارته للخرطوم في العام 2006 سأله وكان صحبة التشكيلي عصام عبد الحفيظ : أين علي المك !
أما عبد العزيز محمد داوود فقد ولد في بربر في العام 1918, ووجدته في مصادر أخرى في ١٩٢٧ أو في ١٩٣٠ ، وتوفي في العام 1984 .