العلاقات السودانية المصرية فوق المزايدات

العلاقات السودانية المصرية فوق المزايدات والمكايدات الشخصية أو الجمعية للحكام، أو المجموعات السياسية أو الولاءات العقائدية.. ما سنورده في هذا المقال يؤكد على ضرورة وحتمية خلق واستدامة علاقة طيبة مع مصر، بغض النظر عن طبيعة الحكم في السودان، نركز على جانب السودان لأن كل التوترات في العلاقة كانت تصدر من السودان الذي تأرجح فيه الحكم منذ الإستقلال، بين حكم مدني ديمقراطي قصير، وحكم عسكري طويل، أول توتر حدث في العام 1924 إبان الحكم الثنائي البريطاني- المصري على السودان منذ العام 1898 في انتفاضة ثورة اللواء الأبيض بقيادة علي عبد اللطيف ورفاقه ضد الانجليز والمطالبة بالوحدة مع مصر، بعد إخماد ثورة اللواء الأبيض غرس الاستعمار الانجليزي الإسفين الأول في توتر علاقات السودان ومصر، وذلك بتقليض دور مصر في حكم السودان، وبدأ في خلق كيان حزبي مناوئ للحزب الوطني الاتحادي وحاضنته طائفة الختمية التي قدم قادتها من مصر، والكيان المناوئ هو حزب الأمة وحاضنته طائفة الأنصار- أنصار المهدي- تشاكست قيادات الحزبين الكبيرين ممثلة في طائفتي الختمية والأنصار، وكان السبب المباشر في عدم استقرار الحكم في السودان وتوتر العلاقات بين السودان ومصر.
ما يجعل العلاقات السودانية المصرية الطيبة المتميزة ضرورة قصوى يجب المحافظة عليها في كل الأوقات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها الآتي:
أولاً: تاريخياً العلاقة ضاربة في القدم منذ مملكة كوش السودانية (1070ق م-350م)، التي حكم خلالها الفراعنة السودانيين مصر في عهد الملك الكوشي كاشتا في القرن الثامن قبل الميلاد بعد غزوه مصر، وفي الحقبة 25 من حكم مصر ولمدة مائة عام، بعدها دحرهم الآشوريون وعودتهم جنوباً داخل السودان.
مصر حكمت السودان مع الأتراك في الإمبراطورية العثمانية في الفترة (1821 حتى 1885) عندما أنهى الإمام المهدي الحكم المصري العثماني بفتح الخرطوم في 1885.
مصر حكمت السودان مرة أخرى مع الانجليز منذ 1898 بعد معركة كرري بقيادة كتشنر حتى 1956 حيث تم إعلان استقلال السودان عن مصر وانجلترا، أي أن مصر شاركت في حكم السودان حوالي 122 عاماً.
ثانياً: جغرافياً حدود السودان الشمالية مع مصر تعد ثاني أطول حدود سودانية مع 7 دول بطول حوالي 1300 كلم، ومع دولة جنوب السودان حوالي 2000 كلم.. السودان ومصر مرتبطان بشريان مهم هو نهر النيل يتقاسمان مياهه حسب اتفاقية مياه النيل لعام 1959 بنسبة 18,5 مليار متر مكعب للسودان و55,5 مليار متر مكعب لمصر.
ثالثاً: اجتماعياً تعود العلاقة المباشرة إلى العام 640م ودخول الإسلام السودان من مصر بعد اتفاقية البقط بين الملك السوداني خالدورات وعبد الله بن أبي السرح حاكم مصر، وهي الاتفاقية التي أعلنت وأعملت مصطلح الحريات الأربع- حرية تنقل المواطنين، حرية التجارة، حرية العمل وحرية تملك الأراضي- بهذه الإتفاقية دخل الإسلام السودان وتم فيها التصاهر، ونشأة الطرق الصوفية وتزايد العنصر العربي في شمال وأواسط السودان، حتى صارت اللغة العربية هي اللغة الرسمية في السودان حتى الآن.
رابعاً: سياسياً كل المجموعات والآيدلوجيات الجديدة في السودان أتت من مصر، الشيوعية مثلاً دخلت في أواخر أربعينيات القرن الماضي، وحركة الإخوان المسلمين في بداية الستينيات من القرن الماضي، نشأت كل الأحزاب السياسية في السودان ما عدا حزب الأمة وكان لمصر الدور الأعظم في دعمها.
خامساً: ثقافياً تأثر السودان كثيراً بمصر إذ أن كل الأساتذة في اللغة العربية والتربية الإسلامية درسوا في الأزهر في مصر، وكان لهم الدور الأعظم في توجهات طلاب المدارس خاصة المرحلة الثانوية.
سادساً: حركة التنقل تشير إلى أن أكبر عدد من السودانيين في الخارج متواجدين في مصر في أي وقت من الأوقات، ويقدر عددهم بحوالي 3 ملايين يسافرون ويهاجرون اليها لأغراض العلاج، السياحة، والعمل والاستثمار.. أكبر استثمارات السودانيين العقارية توجد في مصر، خاصة في العشر سنوات الأخيرة وتقدر بملايين الشقق.
سابعاً: شكل العلاقة المتميزة بين السودان ومصر يجب أن تحكمه العوامل التالية:
أولاً: عدم وجود الندية (المؤثرة للعلاقات) في اتجاهين متقابلين، لا توجد ندية بين الدولتين في مجال القوات المسلحة والأمنية الأخرى وفي الصناعات، مصر تملك أقوى وأكبر جيش في أفريقيا والشرق الأوسط، وفي الصناعات تفوق مصر السودان كثيراً وفي المقابل لا توجد ندية في الثروات السودانية التي تفوق مصر كثيراً، السودان يملك 275 مليون فدان صالحة للزراعة، المزروع منها فقط (44) مليون فدان، ومن هذه الـ(44) مليون (4) ملايين فقط مروية من النيل والباقي زراعة مطرية، مصر لا تملك من المياه إلا الـ(55,5) مليار متر مكعب من نهر النيل ولا توجد بها أمطار، وتواجه تحدياً كبيراً في مقابلة غذاء سكانها المتزايد في ظل حصة محددة من مياه النيل، ويتوقع أن تواجه أزمة غذاء في السنوات القادمة. عدد سكان مصر الآن يفوق الـ(100) مليون نسمة وعدد سكان السودان يقل عن الـ(40) مليون. السودان ومنذ العام 1959 لم يستهلك أكثر من 50% من حصته في مياه النيل، والسودان يملك ثروات معدنية نادرة في باطن الأرض ومصر لا تملك أي نسبة مقدرة مثلها، معادن السودان مثل الذهب، النحاس، الحديد، الكروم، التيتانيوم إضافة إلى البترول يملك السودان ثروة حيوانية هائلة تقدر بـ(120) مليون رأس بصفة دائمة كل عام.
ثانياً: وجود هذا التباين في الندية يحتم الحفاظ واستدامة العلاقة المتميزة بين البلدين، وذلك بعملية تكامل عادل بينهما يتمثل في إعمال الحريات الأربع، والسماح لمصر ومزارعيها الماهرين بالزراعة واستصلاح ملايين الأفدنة في السودان، السماح لمصر بنقل استثماراتها في الصناعات التحويلية في مجالات النسيج، الزيوت، المسالخ، المدابغ، التعليب في الخضر والفواكه وتصديرها من السودان. تكامل يشمل توقيع اتفاقية دفاع مشترك يشكل رادعاً قوياً لكل متربص بأمن وسلامة حدود الدولتين.
تكامل في أجهزة الاستخبارات وتبادل المعلومات وملاحقة المجرمين عبر الحدود بين البلدين أو أي بلاد مجاورة أخرى.
تكامل ثقافي تعليمي يعيد تواجد الجامعات والمعاهد والمدارس المصرية في السودان كما كانت في السابق، عندما تلقى الملايين من السودانيين شهادات رفيعة من جامعة القاهرة فرع الخرطوم التي ما زالت معلماً خالداً لكنه خامد الآن في قلب الخرطوم.
تكامل اجتماعي يذيب الحساسية المفتعلة بين مواطني الدولتين والخوف من تزايد العنصر العربي لدى بعض مكونات المجتمع السوداني ذات الأصول الأفريقية، تكامل يشجع دعم التعليم الجامعي للسودانيين من مختلف أجزائه الأفريقية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق والشرق.
لكل ما تقدم يجب أن تعمل حكومة الوحدة الوطنية الحالية وكل مكوناتها على إعادة العلاقة السودانية المصرية إلى حالة التكامل العادل، في المجالات كافة وإزالة كل الحساسيات (المزروعة بحساب دقيق) بين الشعبين السوداني والمصري، حينها سنجد من مصر وشعبها السند الحقيقي في مقابلة أي تحديات أمنية قد يتعرض لها السودان.