درجَتُ منذ نحو أربعة عقود زمنية أو يزيد، على زيارة العاصمة المصرية القاهرة مرةً كل عام على الأقل. كذلك مكثت فيها لاجئاً لبعض الوقت، بعد أن بعثرنا الغزو العراقي للكويت، وأُغْلِقت أبواب الوطن في وجوهنا. وسواء هذا أو ذاك فأنا أصلاً أقصدها لأمرين خاصين، الأول أن لي ثُلَّة من الأصدقاء المِصريين الديمقراطيين، الذين تجمع بيني وبينهم هموم مشتركة. وهم فئة مصطفاة ينبغي لمثلي أن يعتز بصداقتهم، فأنت حينما تجالسهم يذهلك هذا الكم الهائل من القضايا الكونية التي يحملونها في رؤوسهم وصدورهم. وهي قضايا لا تقف عند حدود الجغرافيا ولا العرق ولا اللون ولا الدين، فالشعوب عندنا سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحدٍ على الآخر إلا بقدر إسهامه الإنساني.
بيد أن الناس على غير ما دَرجَّتُ، فقد اعتادوا زيارة القاهرة في الغالب من أجل مشاهدة الآثار التاريخية، مثل تمثال أبو الهول أو الموميات الفرعونية أو رؤية الأهرامات الثلاثة، مع أنه لا أذكر أنني رأيت واحداً منها. ولكن مثلما للمصريين أهراماتهم الثلاثة، لي أهرامات سودانية ثلاث أيضاً، لا تكتمل زياراتي للقاهرة إلا بعد أن تكتحل عيناي برؤيتهم. ولا يخففن من صنائع العُصبة في نفسي إلا بعد أن نتبادل الرؤى حول الهم العام، وتعلمون لمثل هذا يضرب المرء أكباد الطائرات. ولكن حتى لا أكون أنانياً فلست وحدي، فثمة من يشاطرني المشاعر نفسها من أصدقائنا المشتركين وما أكثرهم. أهراماتي الثلاثة هم حيدر إبراهيم علي وجابي فايز غبريال وكمال رمضان. وثلاثتهم اتّخذوا من القاهرة منفى في سنوات التيه والشتات، في حين ظلَّ الأصدقاء الآخرون وأنا منهم، يتوهون من منفى إلى منفى، حتى كادت أن تصبح كل الأرض منفى – كما قال التيجاني سعيد – ولنا وطن ضاق ببنيه رغم اتساعه.
بالطبع إضافة للعلائق الإنسانية، ظلَّ الهم الوطني هو القاسم المشترك الذي يجمعنا معاً. وعلى الرغم من أنه دين مستحق، إلا أنه يزيد ويعلو عندهم بمقدار. يشعرونك أن الحياة وهي ماضية في رحلتها لا تستقيم إلا بتسجيل موقف يحفظ للإنسان كرامته وعزته وإنسانيته. فمن مِنَّا لم يقرأ إسهامات حيدر إبراهيم علي الفكرية، وهو ينذرنا منذ وقت مبكر بغزو الجراد الصحراوي، وظلَّ يتابع خُطاه وهو يحيل الوطن لهشيم تذروه الرياح. من مِنَّا لم يسمع بإسهاماته السياسية والثقافية، تتناقلها الأكف عبر الوسائط المختلفة لتنير للناس الدروب التي عتَّمها الظلاميون. وبنفس القدر أعلم أن البعض يتساءلون، ممن لم يقرأوا للهرمين الأخيرين شيئاً. ليس ضناً بما يكتنزون، ولكن كل ميسر لما خُلق له، فالكتابة ليست وسيلتيهما للتعبير عن مواقفهما ومكنون نفوسهما، ولكنك إن اقتربت منهما، ولم تشاء تخفيف الحمل على خافقيك، فستجد أكثر مما تريد وتشتهي.
متَّع الله الصديقين العزيزين حيدر وجابي بالصحة والعافية وموفور العطاء، وجعل الجَنة مقاماً أبدياً لصديقنا كمال رمضان، الذي رحل عن دنيانا الأسبوع الماضي في هدوء يشبه السَّمْت الذي جُبل عليه. مضى كمال إلى رحاب ربه راضياً مرضياً، وهو فقد عظيم لرجل نقي السريرة، بهي النفس، سمح الخصائل. كان يناديني دوماً بـ (صديقي) وأنا كذلك، حتى كدنا من فرط تكرارها أن ننسى أسماءنا التي فُطرنا عليها. رحل كمال قبل أن يقول لنا كل شيء، كنت وآخرون من الأصدقاء كلما ألححنا عليه للتوثيق، يختلق المعاذير ويلوذ بعبارته المعهودة (كله بأوانه) فلم يكف ولم نيأس. وكانت رغبتنا هذه تتجدد دوماً حينما يطلَّ علينا شهر يوليو، بحسبه الشهر الذي تشتعل فيه الحُمى في أوصال كمال، نظراً لمعايشته بعض أحداثه الجسام في الواقع السوداني.
لم يكن كمال شيوعياً ولا بعثياً ولا عضواً في تنظيم القوميين العرب، ولكنه كان صديقاً لعبد الخالق محجوب ومصدر ثقته، وكذلك كان صديقاً حميماً لفاروق عثمان حمد الله، فلا غرو عندئذٍ إن كان شاهداً على بعض وقائع انقلاب 25 مايو 1969 وانقلاب 19 يوليو 1971 وفي واقع الأمر قصص كمال مع العسكر لم تنقطع منذ أن دافع وزميله في المهنة الراحل أنور أدهم عن اللواء علي حامد ورفاقه، بعد فشل محاولتهم الانقلابية ضد نظام الفريق إبراهيم عبود في العام 1959.
في زيارتي قبل الأخيرة للقاهرة، فوجئت به ونحن جلوس في منزله العامر، وهو يباغتني بسرد بعض الأحداث التي كان حاضراً فيها وليس شاهداً. وما حدثني عنه هو إجابة للسؤال الحائر الذي سأله موثقون كُثر، وأجمع عليه اثنان في توثيقين مهمين صدارا عن انقلاب يوليو 1971 وهما الدكتور حسن الجزولي (عنف البادية) والدكتور عبد الماجد بوب (19 يوليو/ إضاءات ووثائق) وفيهما كانا يتساءلان عن المكان الذي كان يتردد عليه عبد الخالق محجوب بعد الانقلاب، وقد أضنى البحث الكثيرون يومذاك، وخاصة في اليومين الأولين بعد الانقلاب.
اقتبس من الرواية الطويلة التي اتحفني بها كما، شذرات بمناسبة الذكرى 46 لانقلاب يوليو 1971 والتي تزامنت مع رحيله. فقد ظلَّ عبد الخالق محجوب يتردد على منزله في الامتداد شارع 47 وفيه كانت له لقاءات تتصل بالحدث الذي زلزل السودان بصورة عامة وأروقة الحزب الشيوعي بصفة خاصة، ولعل ما يمكن أن نلقي عليه الضوء بحسب إفادات كمال، تؤكد أن بعض أجهزة الحزب بوغتت، بدليل أن السكرتير العام عبد الخالق محجوب، ظلَّ يبحث عن الطرق الكفيلة بتأمين الانقلاب بعدما أصبح الأمر واقعاً وتأكد للقاصي والداني بأنه من تدبير الحزب الشيوعي، غض النظر عن الملابسات الطويلة التي أكدت انغماس بعض الكوادر القيادية العسكرية والمدنية في التخطيط والتنفيذ، والآخرين الذين فضلوا البقاء في المنطقة الرمادية، واختفاء آخرين بشكل تام.
بحسب رواية كمال التي اختزنها زمناً وأسردها هنا بحسب توثيقه. كان عبد الخالق محجوب قد طلب منه ومحمد سعيد كسباوي (لواء طيار وهو بعثي وصديق كمال، توفى الأسبوع الماضي، في اليوم التالي لوفاته) لقاء مع مسؤول من السفارة العراقية، فتم الاتصال بالمستشار طارق العاني نسبة لأنه يعرف عبد الخالق محجوب شخصياً، تمّ لقاءَ الأربعة في منزل كمال رمضان بالامتداد. كان هناك نقاش عام في البداية حول الانقلاب، وطلب عبد الخالق من العاني مساعدة الحكومة العراقية من أجل تأمين الثورة بحسب تعبيره. في هذا الحديث هناك نقطتان أو ملاحظتان صدرتا عن عبد الخالق، الأولى تكراره المستمر بعدم الوصاية (نحن لا نقبل الوصاية) والنقطة الثانية كان عبد الخالق قد أبدى تبرماً عندما قال العاني (اعتقد لازم تُورَّدوا هذه الثورة) أي تصطبغ بدماء، فقال عبد الخالق بحزم نحن مش كده.
يضيف كمال، في مساء نفس اليوم، أحضرت طارق العاني للقاء آخر في منزلي مع عبد الخالق، وخرجت بعد أن تركتهما معاً لبضعة ساعات، وبالتالي لم أعرف ما حدث. واعتقد بأنه في هذا اللقاء تم الاتفاق على تفاصيل غير متاح لنا معرفتها، غير أنني أرجح إنها خاصة بالطائرة التي أرسلت للخرطوم، وسقطت بالقرب من مطار جدة، بما فيها ومن فيها، عدا شخص واحد هو سمير نجم، ولم يعرف أسباب سقوطها مطلقاً، وكانت تحمل محمد سليمان عبد الله التعايشي عضو القيادة القومية لحزب البعث، ومعدات عسكرية كمساعدات للسلطة الجديدة.
يقول كمال التقينا نحن الأربعة مرة أخرى، عبد الخالق محجوب وسعيد كسباوي وطارق العاني وشخصي مساء يوم 21/7 وكان الجو ممطراً. ما أذكره في هذا اللقاء شعرت أن المواقف مع طارق العاني بدأت متباعدة من سياق النقاش، حيث أن عبد الخالق كان يكثر من عبارة نحن نرفض الوصاية. وكانت الطائرة المعنية سوف تصل من بغداد صباح 22/7 وبعد انتهاء اللقاء، ذهبت لتوصيل العاني لمنزله، وفي الطريق قال لي ضروري جداً أقابل الرائد فاروق حمد الله قبل أن يلتقي بقية أعضاء قيادة الثورة. قلت له كيف بمعنى أنه لم يصل بعد من لندن. فلم يعقب ولم أزد، ولكن حين عودتي أخبرت عبد الخالق بذلك فلم يُعقِّب بشيء أيضاً، وعوضاً عن ذلك تجاهل الملاحظة، وسألني عن رأيي بصورة شاملة في ما حدث. وأجبته باستفاضة وتمثلت إجاباتي في التالي.
- الحركة تبدو معزولة عن الشارع.
- لم يكن الرائد هاشم العطا مقنعاً في البيان رقم واحد، وأضفت له: ربما لو كان فاروق حمد الله هو الذي ألقاه، لربما كان الوضع أفضل. ولم أقل ذلك باعتبار أن فاروق صديقي وعبد الخالق يعلم ذلك.
- إن انقلاب مايو حينما حدث ونجح كانت أقل رتبة فيه رائد، والغريب إنه في مجلس 19 يوليو هناك رتبة نقيب، بمعنى أقل.
- مجلس الثورة تعيَّن كله من الحزب الشيوعي، هذا سيجعل الناس يترقبون تعيين مجلس وزراء مدني، لكي يكون معياراً للحُكم على الانقلاب.
- اقترح مجلس وزراء من التكنوقراط، بجانب الصف الثاني أو الثالث من الأحزاب حتى يكون كصيغة قومية.
- وأخيراً سألته عن موقف الحكومة المصرية، وقلت له: بحكم العوامل الجغرافية يبدو البحث عن سندها أفضل من البحث عن سند العراق.
أجابني باقتضاب شديد على ملاحظاتي، وبدأ بالنقطتين الأخيرتين وقال: أوافقك في موضوع الوزراء، وياريت لما نتقابل تسلمنى مقترح بأسماء وزراء يمكن ترشيحهم. وسألني إن كان لدي علاقات مباشرة مع المصريين، فنفيت وقلت له: لدي صديق مقيم في بيروت، ولديه علاقات نافذة مع الحكومة المصرية. فقال لي: غداً بعد انتهاء الموكب 22/7 سلمني الأسماء، ونلتقي في القيادة العامة عشان نشوف موضوع طائرة لبيروت. علماً بانه التقى بعد ظهر يوم 21/7 وفداً صحفياً مصرياً بينهم أحمد حمروش رئيس تحرير مجلة روز اليوسف، وأحمد فؤاد رئيس مجلس إدارة بنك مصر وآخرون. وعرفت هذه المعلومة فيما بعد ولم يقلها لي، ربما باعتبار أن لي سقفاً معيناً لمعرفة ما يجري.
يواصل كمال، مرَّ عليَّ عبد الخالق صباح يوم 22/7 في منزلي، سلمته ثلاثة أسماء وهم: عبد الله محمد أحمد، كمال حسين، عبد الرحيم موسى. نظر للأسماء في الورقة الصغيرة ودقق فيها، ثم قال لي: الأول مرفوض، والثاني أصلاً زولنا، ثمَّ وضع الورقة في جيبه، بعد أن كتب على الهامش اسم عبد الرحيم موسى. والمفارقة أنها كانت السبب الذي اعتقل عبد الرحيم موسى بموجبه، بعد أن وُجِدت في جيب عبد الخالق محجوب حين اعتقاله، وبعدها لم نلتق أبداً!
رحم الله صديقنا كمال رمضان الذي أحبَّنا وأحببناه. كان كريماً سخياً رخياً كما النسمة الرطبة في عز الهجير، لا تحلو له الحياة إلا حينما يكون محاطاً بثلة الأصدقاء الذين لا تخلو داره منهم أبداً. وكان محباً للحياة ويتنفس إكسيرها من خلال الأصدقاء الكُثر. كان كمال كمالاً في انتقاء عباراته، مرتباً في أقواله وأفعاله، ولهذا لم نستغرب ما ذكره لنا صديقنا المشترك محمود الشيخ المحامي في رثاءه الشفيف له، قال إنه طلب منه قبل يومين من رقدته الأبدية، أن يعد له مسائل قانونية أسرية. وصدق راحلنا العزيز في ما كان يقول لنا دوماً كلما طلبنا منه توثيقاً (كل شيء بأوانه) وإن لم يكن هذا أوان الرحيل، فوداعاً يا صديقي!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر.
faldaw@hotmail.com