في مطلع الأسبوع الجاري قام عمر البشير بزيارة رسمية إلى كادوقلي عاصمة جنوب كردفان، بعد انقطاع دام لأكثر من خمسة أعوام، وفي زيارته المعلنة هذه المرة تحدث البشير بكل طمأنينة مع والي الولاية، وقدموا خطابات حوت رسائل مباشرة الي الرفيق عبدالعزيز الحلو، كانت إحداها تتحدث عن السلام، وأخرى تتحدث عن عروض لمناصب مقابل الأولى، مثل منصب والي لولاية جنوب كردفان، وسموا مباشرة الرفيق الحلو لهذا المنصب. جاء حديثهم استجابة لما يطلبه المستمعون من القوميين النوبة والخط الذي طرحه الرفيق عبدالعزيز آدم الحلو بحصر مطالب الحركة الشعبية في جبال النوبة وجنوب كردفان، وهذا يعتبر استجابة فعلية للأصوات التي كانت تعمل على تقزيم الحركة الشعبية، وقد إنتابتني الحيرة لأعلم من استجاب لمن! لأن في الأصل هذه كانت مطالب الحكومة السودانية ظلت مطروحة منذ 2011م، وذلك بحصر مطالب الحركة الشعبية في المنطقتين.
وبعيدا عن مناقشة تفاصيل الراهن السياسي الذي مر على الحركة الشعبية لتحرير السودان في الشهور الماضية، الا إن الخطاب الذي صدح به مؤخرا نظام الإنقاذ (البشير وواليه اللواء أمن عيسى) في احتفالية كادوقلي الأخيرة وكذلك التصريحات التي تصدر من قيادات الإنقاذ مثل أمين حسن عمر لسودان تربيون (في أبريل المنصرم) وغيرها من تصريحات لم تأت منفصلة ومنبتة عن ما حدث ويحدث، فقد جاء الخطاب قارئا للخطاب الذي علا والمزاج الذي ظل يتصدر المشهد السياسي الداخلي للحركة فترة الأزمة والي الآن، فجاء مخاطبا لسقوفاته، وهو السقف الذي أعتبره مقزما (كما قلت أعلاه) للخطاب السياسي للحركة الشعبية الي المنطقة الواحدة (جبال النوبة)، ودون الذي كان يطرحه النظام نفسه، وهو مناقشة القضايا على أساس المنطقتين فقط، بل رفضه، وتعنته طيلة السبعة أعوام الماضية وفي الـ (15) جولة تفاوضية من أن يستجيب للخطاب الذي كان يطرح آنذاك من قبل الحركة الشعبية ووفدها المفاوض بأن تخاطب وتعالج القضية من جذورها وبشكلها الشامل بادية بإصلاحات حقيقية وجوهرية من المركز بكل قطاعاته السياسية والاقتصادية والامنية…الخ، لتنعكس تلك الإصلاحات والمعالجات في مخاطبة قضايا وخصوصيات مناطق الصراع جبال النوبة/ جنوب كردفان ودارفور والنيل الأزرق وغيرها من المناطق المهمشة .
وهذا سيخلق بالطبع السودان الجديد الذي يقوم على أساس المواطنة المتساوية والحرية والعدالة، فقد كانت تقول، وبل في أول ورقة طرحتها للتفاوض كانت تتحدث عن كل منطقة على حدة وتقول بأن لديها اتصالات مباشرة مع القادة الميدانيين، وهذا ما أشار إليه والي جنوب كردفان حينما تحدث، وهذه خطة حكومية قديمة وجدت طريقها فيما حدث مؤخراً بجبال النوبة، ولكن بالنسبة لنا فليقل الوالي اللواء (أمن) ما يقوله فلا يعنينا ذلك فنحن نعرف رفاقنا وزملائنا فهم مناضلون لا نريد أن يخبرنا الوالي (أمن) هذا عنهم ولن نخونهم كما فعل البعض مؤخرا!.
ومعروف أن الخطاب السياسي والخط التفاوضي الذي ظل يطرح في أروقة الحركة الشعبية منذ تأسيسها في 1983م بأن المشكلة ليست هي مشكلة الجنوب (سابقا) بل هل مشكلة السودان في الجنوب، وحاليا المشكلة ليست مشكلة جبال النوبة أو دارفور أو النيل الأزرق، بل مشكلة السودان تجلت آثارها ونتائجها في هذه المناطق، والمعالجات دوما تتمثل في مخاطبة جذور المشكلة وليست آثارها وتجلياتها.
والسقف الذي طرح مؤخراً في الأزمة التي مرت بها الحركة الشعبية، خاصة عند الرفيق الحلو ومن دعموه، حصر نفسه في مخاطبة لقضية منطقة واحدة (مهما كانت مطالبه)، فقد حدد الرفيق الإطار والساس الذي ينطلق منه، وهي منطقة جبال النوبة، ولذلك قدم استقالته الثالثة في مارس الماضي الي مجلس تحريرها، وخاطبهم فيها بأن ما يحدث ويطرح حاليا، ليس من أجل مصلحة قضية المنطقة، فخوفهم وأوصاهم وخون بقية زملائه، وذهب أبعد من ذلك بطرح سقوفات تفاوضية للمنطقة جعلها معيارا لما يجب النضال والتفاوض من أجل تحقيقه، ودون التطرق إلى حجية وواقعية ما طرحه فإن ذلك في النهاية يتمثل في أنه يخاطب منطقة واحدة حصر نفسه فيها، ولم يطرح نفسه ويتصدر الخطاب الذي يعالج قضايا السودان بشكلها الشامل والذي قلنا إنه مشروع لسودان جديد.
ولذا استمال ذلك الخطاب القوميين من جبال النوبة، الذين كان ومازال هذا الخطاب والخط هو خطابهم وصميم خطهم، وقد وجد الرفيق التأييد المطلق منهم في صراعه ضد رفاقه في قيادة الحركة الشعبية، وبالمقابل وجد هذا الخط السياسي والخطاب ارتياحاً من قبل النظام، بحيث أنه بالإضافة إلى أنه جاء تحت سقوفات ما يطرحه، فإنه أعفاه من مناقشة القضايا في المركز وعلى أساسها الشامل، أعطاه المشروعية في المركز، ليقوم هو الآخر بمبادلة تلك المشروعية، ليعطي الرفيق الحلو الولاية (جنوب كردفان)، وما نريد أن نشير إليه أيضا ونلفت انتباه الجميع له، هو أن خط القوميين النوبة متطابق مع خط الخرطوم، وإن زيارة البشير لكادقلي لم تأت الا إحتفاءا بخط القوميين النوبة الذي لا يشكل خطراً على نظام البشير، وقد تنفس الصعداء نتيجة الانقسام الذي أحدثه الانقلاب الأخير في الحركة الشعبية.
ولم يقل البشير خطابه ويغير لهجته هذه، وكذلك الوالي عيسى أبكر من فراغ أو حماس اعتراهما، نتيجة إعتلائهما المنصة، بل هو خطاب يعبر عن برنامج وسقف سياسي من الحكومة للرفيق الحلو، وللحركة الشعبية التي يقودها، فيجب قراءة ذلك بشكل سليم، بحيث أن قمة ما يطلب من سقف لحركة تطرح نفسها على مستوى منطقة أو إقليم (وأعطت انطباعا لذلك وبل اتخذت قرارات في سبيل ذلك) هو منصب الوالي أو الحاكم للمنطقة أو الولاية موضوع الحديث، أو سلطة انتقالية في المركز لهذا الإقليم مثل اتفاقية أديس أبابا 1972م لجنوب السودان واتفاقية الدوحة 2011م لدارفور (جوزيف لاقو وتجاني سيسي).
وهذه السلطة تعتبر قمة قيادتها السياسية والتنفيذية، وهذا مريح بالنسبة للحكومة، لذلك أعلن رأس النظام استعداده للسلام، وصرح الوالي بأنه مستعد للتنازل من منصبه لصالح الرفيق الحلو، مهراً لذلك، وفي المقابل لن يكون هنالك قضية تطرح لتهدد عرش السلطة في الخرطوم، وهذا هو السقف القديم الذي تم استبعاد رواده من قيادة الحركة، أو تم تقسيم الحركة الشعبية نتيجة ذلك، فالرفيق الحلو أمام خيارين إما توحيد الحركة الشعبية وفق برنامجها القديم الشامل والجذري وطرح والتمسك بمشروع السودان الجديد(وهو الأفضل) أو المضي قدماً في الإستجابة لما يطرحه النظام كصدى مردود لما نادى به.
ولا نقول إن عروض النظام للرفيق الحلو جاءت نتاج مكافأة لأن ذلك يندرج تحت طائلة التخوين والاتهام الذي لا يسنده أدلة، فهذا نهج نبعد أنفسنا منه، بل جاء نتاج قراءة للخط والخطاب السياسي المطروح من قبله، وكذلك القرارات التي اتخذت على أساس ذلك، وهي كانت قضية يتمناها المؤتمر الوطني ( الحزب الحاكم) ، وقد تحدث منذ فترة واستثمر سياسيا وأمنيا من أجلها، وضخ خطابا سياسيا وأثني كثيراً حولها، محرضا وعمل على تقسيم الحركة الشعبية على الأساس المناطقي تارة، والإثنية تارة أخرى.
وفي المقابل عملت قيادة الحركة الشعبية متوحدة عكس ذلك في المرحلة الماضية، بما فيها الرفيق الحلو نفسه، وظلت تطرح الخط السياسي الشامل والجذري المعالج للأزمة بكل تجلياتها، الا أن التدهور الذي حدث بعد استقالة الحلو، والتي أخذت ذلك الخط وأسست عليه بشكل ممنهج داخل مؤسسات الحركة الشعبية، هو الذي فتح شهية النظام للمضي قدما في ذلك، بل ذهب أكثر في عرض العروض المشجعة له، وقام بالتلويح بإمكانية التوصل إلى اتفاق بعد هذا، وبدأ بعرض منصب الوالي كبداية، وقد تصل العروض إلى مناصب عليا في القصر الجمهوري في الخرطوم، على أن تكون مجرد كراسي بدون تغيير جوهري سيحدث ويطرأ في نظام الحكم، ويفكك دولة الحزب الواحد، وينقل البلاد نحو التعددية السياسية والديموقراطية والعدالة، وكأن النضال كان من أجل الالتحاق بالنظام، وليس من أجل تغيير النظام والقوانين المؤسسة له.
النظام كان ومازال يتعامل بجدية، ويدافع عن مركز السلطة ويتهم الحركة الشعبية بتجاهل قضية المنطقتين وتناول قضايا السودان بشكل شامل، جاء هذا نتيجة الربط المحكم الذي أحدثته الحركة الشعبية بين الإصلاحات في المنطقتين من جهة والمركز من جهة ثانية والحل الشامل من جهة ثالثة، ولذلك غبطة البشير الحالية في كادوقلي مصدرها أن القضية حاليا أصبحت قضية جبال النوبة بمعزل عن القضايا الأخرى أعلاه، ومؤكدا أن ما يقوله البشير سيترجم في طاولة المفاوضات وسيتضح ذلك قريبا.
ويجدر بي أن أختم مقالتي هذه بالقول إن الخطاب السياسي المطروح من قبل الرفيق الحلو لن يؤدي إلى المعالجة الجذرية للمشكلة، التي كان النضال من أجلها، وهو سقف مهما تبين أنه سقف عال، الا أنه في الحقيقة سقف متدن ووضيع، ويتبين ذلك للقارئ الحصيف والسياسي الواعي، فالسقف العالي يتثمل في الربط المحكم أعلاه، وهو بالحقيقة تجسيد لمشروع السودان الجديد كبديل حقيقي لحكم البلاد، لينعكس على مناطق النزاع، وليس التقسيم ونهج التجزئة الذي سينتهي بمناصب ووظائف، ومهما قال إنه يسعى من أجل تقرير المصير للمنطقة، فإنه بذلك يطرح خطابا متضعضعا، وفي مستوى منطقة محددة وترك المجال بالتالي للنظام في المركز وبقية السودان.
النظام حسب ما أراه لن يرفض ويعلق على تقرير المصير، ولن ينزعج منه في الوقت الراهن، بل سيترك ذلك يُطرح ويساعد عليه من أجل إحكام الانقسام في صفوف الحركة الشعبية، وليتأكد بأنه يخلق تباعد بين الحركتين، بحيث يصعب توحدهما مجددا، أو يتمكن من فرض العزلة على خط السودان الجديد الذي يطرح القضية بشكلها الشامل والجذري في صراع التيارات الداخلية (إذا استطاع) لأنه يعتبره المهدد الرئيسي له.
وعندما يحين طرح مسألة تقرير المصير فإنه لن يمنحه لهم، بل سيقول بدوره حسنا هذه خطوة موفقة منكم بالقبول والنزول لمناقشة القضية على أساس المنطقة، وهو ما كنا نريده، وشكرا جزيلا لذلك، ولكن لن نتفاوض من أجل تقرير المصي، وماذا لديكم غيره من مطالب فنحن مستعدون له من منصب الوالي أو الحاكم الي أخر (حتة)في الإقليم مع بعض المناصب في المركز، وهذا ما أعلن استعداده مسبقا في احتفالية كادوقلي للتنازل عنه، والا فإنه سيستمر في الحرب على الحركة الشعبية (المنقسمة) والتي لن تكون كما كانت من قبل.
*الكاتب: الناطق الرسمي باسم “الحركة الشعبية لتحرير السودان”