رغم أن الشعب السوداني حسم خياره بدعم توجهات الحكومة الاقتصادية الجديدة الا ان البعض مازال يثير الجدل حول القرارات الاقتصادية، بعضهم بدافع ايدولوجي والبعض الاخر بدافع سياسي، ومن عجب أن الايدولوجيين والسياسيين في لهثهم من أجل تحفيز الشعب على إسقاط البرنامج الاقتصادي للحكومة والمبني على سياسية تحرير الصرف يبررون موقفهم في مهاجمة هذه السياسة الاقتصادية بانها سياسة النظام البائد وسياسة البنك الدولي! وفي ذلك مغالطة تاريخية وموضوعية كبيرة.
النظام البائد لم يتجه نحو سياسة التحرير الا في بدايات العشرية الثانية من هذا القرن وبعد مضي أكثر من عشرين سنة من حكمه، وظل طيلة العشرين سنة من هذا الحكم يشتغل بنظرية ذات هؤلاء الايدولوجيين الذين يتحدثون عن الاعتماد على الداخل وعدم الاستعانة ببرامج البنك الدولي، والجميع يذكر شعارات الإنقاذ التاريخية التي صدعت بها اذان الجميع في الإذاعة والتلفزيون من قبيل ( ناكل مما نزرع ونلبس مما نصنع)، ثم استخدام الإنقاذ لطلاب المدارس في الحصاد لجني القطن، وغير ذلك من المشاريع التي نفذتها الإنقاذ ويدعو إليها هؤلاء الايدولوجيين ولكنهم لا يملكون فضيلة الاعتراف بأن الإنقاذ فشلت في هذه السياسة التي استخدمتها لأكثر من عشرين سنة ثم لجأت إلى سياسة التحرير.
بعد تطبيقها مؤخرا فشلت سياسة التحرير في عهد الإنقاذ لأنها كانت سياسة فوقية لم تستوعب حاجة المواطنين، ولم تقدم حزم مساعدة لحماية الشرائح الضعيفة، والمبالغ التي يتم توفيرها من سياسة التحرير لا تذهب الى التنمية ولا الفقراء وانما تذهب لجيوب الكيزان وشركاتهم ومؤسساتهم واخوانهم في التنظيم خارج السودان، ولو تابع البعض برنامج اسرار الإخوان في السودان الذي بثته قناة العربية في الفترة الماضية لسمع باذنيه اعترافات الكيزان بهذه الحقائق، لذلك لا يمكن استخدام هذه التجربة السيئة التي تمت فيها سرقة الشعب لا إصلاح اقتصاده دليلا على حتمية فشل سياسة رفع الدعم الحالية، والتي تدار عبر حكومة قومية لا مصلحة لها في سرقة الوطن، بل تجتهد من اجل ايصال الدعم إلى الأسر الفقيرة لحمايتها من أثر هذه السياسة المؤقت.
رفض البعض لسياسة التحرير الراهنة لانها سياسة البنك الدولي يشبه رفض الكيزان أيام عشريتهم الأولى وهم يسيرون المسيرات هاتفين (لن يحكمنا البنك الدولي ) (داون داون يو إس ايه)، نفس الفهم الأيديولوجي المتعصب المفتقد للمنطق والعقلانية والذي لا يرى في البنك الدولي سوى مؤسسة استعمارية هدفها استعمار الدول وافشالها وليس مساعدتها على تخفيف حدة الفقر وإصلاح أحوالها. يقولون هذا وكان هذا البنك الدولي ولد بالأمس! بينما هذا البنك هو مؤسسة دولية قارب عمرها المئة عام، وهو مؤسسة تتبع للامم المتحدة واعضاءها أكثر من ١٨٠ دولة حول العالم، فهل مؤسسة عالمية بهذا الوصف وحجم العضوية تخضع لسياسة غير محايدة؟! بالتأكيد لا، قد تكون هناك ملاحظات على بعض البرامج التي نفذها البنك الدولي من ناحية علمية اقتصادية ولكن مجمل برامج البنك الدولي هي برامج ناجحة ومفيدة، والبنك الدولي هو من أكبر المساهمين العالميين في تنفيذ أهداف الألفية والتنمية المستدامة للأمم المتحدة وعلى رأسها تخفيض عدد الفقراء في العالم. لذلك رفض سياسة رفع الدعم فقط لأنها سياسة البنك الدولي هي تطفيف وغلو ايدولوجي وليس رفضا موضوعيا.
على رافضي سياسة التحرير الراهنة اعطاء الفرصة لهذه الحكومة لكي تنفذ برنامجها مادام الشعب قد اظهر ميلا لخوض هذا التحدي خلفها، فالإجماع والدعم الشعبي سيوفر الغطاء اللازم لتجاوز كل مضاعفات العمليات الجراحية المؤلمة التي ستفرزها هذه السياسة الاقتصادية حتى يتجاوز الوطن الآلام ويبدأ رحلة التعافي الاقتصادي بإذن الله.
sondy25@gmail.com