المكون المدني بدأ يستعيد أراضيه في الحكم بعد أن نازعه فيها المكون العسكري منذ 11 أبريل 2019، في ملفات مهمة من صميم اختصاصات المكون المدني حسب الوثيقة الدستورية، والتي سلبها منه المكون العسكري، وهي ملفات السلام والاقتصاد وتفكيك تمكين النظام البائد، الملفان الأول والثاني ترأسهما الفريق أول حميدتي والثالث الفريق ياسر العطا الذي استقال، بعد أن أصغى وتأثر بأصوات مناوئة للثورة وتحن إلى الإنقاذ في حملة ضارية ضد لجنة التفكيك، التي عملت بهمة وثورية مطلوبة لاستقرار الفترة الإنتقالية واكمال التحول الديمقراطي المدني.
بعد اتفاقية السلام في جوبا الموقعة في 3 أكتوبر 2020 ووصول قيادات وقوات فصائل الكفاح المسلح إلى الخرطوم، وتكوين مجلس الوزراء الجديد الذي ضم (7) من قيادات الفصائل المسلحة في وزارات سيادية واقتصادية وأخرى خدمية مهمة، عكس ما كان في الماضي حينما كانت توكل لمناطق التهميش في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان- وزارات قليلة الأثر على المواطن مثل الثروة الحيوانية والصحة والشباب والرياضة والحكم المحلي- هؤلاء السبعة وزراء يشكلون 25% من السلطة التنفيذية، كذلك تم اعتماد مجلس الشركاء كحاضنة للثورة بديلاً للحرية والتغيير وسوف يتم تعيين المجلس التشريعي بنسبة (25%) لمنسوبي تلك الفصائل.
ما حدث وما سيحدث هو ما كان يدعو له الزعيم الوحدوي الراحل د. جون قرنق وهو السودان الجديد، الذي تزول منه كل أشكال ومظاهر التهميش وتتحقق فيه شعارات الحرية والعدل والمساواة والدولة المدنية- حرية التعبير في وسائل الإعلام، والندوات والليالي السياسية والحريات الدينية والعدل، باحترام القانون والمساواة في الحقوق والواجبات والسلطات في وظائف الخدمة المدنية، والمساواة في نشر التعليم وتوفير الخدمات الصحية وكافة الخدمات مثل الكهرباء والمياه والبنيات التحتية، وسوف تقوم في ظل هذه التغييرات الثورية شكلاً ومضموناً ثمانية أقاليم كبرى تتمتع بحرية واسعة وصلاحيات وسلطات عظمى، تراعي القسمة العادلة للثروة والسلطة والتنمية، مما يزيل كل أشكال ومظاهر التهميش الذي أدى في الماضي إلى تمرد فصائل الكفاح المسلح في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق التي ضاق مواطنوها ذرعاً من التهميش والإهمال وتدني الخدمات ونهب الثروات.. الأقاليم الجديدة الثمانية هي:
دارفور، شمال كردفان، جنوب كردفان، الأوسط، الشمال، الشرق، النيل الأزرق والخرطوم.
المؤشرات التي بدأت وترمي إلى إعادة التوازن وكسب المكون المدني لكل أراضيه وسلطاته التنفيذية هي:
أولاً: وصول البعثة الأممية الإدارية المكونة بموجب قرار مجلس الأمن رقم (2525) تحت الفصل السادس، والتي بدأت عملها في النظر إلى إعادة هيكلة القوات المسلحة، ودمج كل قوات حركات الكفاح المسلح والدعم السريع في الجيش القومي الواحد، وكذلك وضعت الخطط لتأهيل ورفع كفاءة قوات الشرطة والقوات الأمنية الأخرى مثل الجمارك والدفاع المدني.
ثانياً: الدعم الأمريكي الحقيقي الجاد للتحول الديمقراطي وتأكيد حمايته مع الوعد بتقديم مساعدات عاجلة وآجلة للسودان، وتشجيع الشركات الأمريكية الكبرى للإستثمار في السودان في مجال الزراعة والثروة الحيوانية، حتى تتم استدامة الحكم الديمقراطي المدني، وهذا الإصرار والجدية من أمريكا تؤكده زيارات غير مسبوقة من وزراء الخارجية والمالية ومن رئيسة بنك الإستيراد والتصدير الأمريكي.
ثالثاً: الاهتمام الأوروبي بدعم التحول الديمقراطي كما أبرزته زيارة وزير خارجية بريطانيا الشهر الماضي، ودعم الاتحاد الأوروبي خاصة فرنسا وألمانيا، وأيضاً أكد ذلك الاهتمام الترحيب الفوري من أمريكا والاتحاد الأوروبي بخطوة تعويم الجنيه السوداني وخطوات رفع الدعم.
رابعاً: ترحيب البنك الدولي وصندوق النقد بقرارات الحكومة بتعويم العملة ورفع الدعم، وتأكيد دعمهما للحكومة السودانية في سياساتها الاقتصادية الجديدة المتسقة مع سياسات البنك الدولي وصندوق النقد وكافة المؤسسات المالية العالمية، مما يدعم موقف السودان في الإستفادة من برنامج الأمم المتحدة (الهيبك) الخاص بإزالة الديون الخارجية عن الدول الفقيرة المثقلة بالديون، (Heavily Indebted Poor Countries) مع التأكيد على المساهمة في دعم الأسر الفقيرة دعماً مالياً مباشراً، لتخفيف آثار الإصلاحات المالية إضافة إلى منح السودان قروضاً كبيرة بعد إعفائه من الديون جزئياً أو كلياً.
خامساً: زيارة قائد الأفروكوم (القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا) للسودان وتأكيد دعمهم للتحول الديمقراطي، وتوحيد جيوش السودان المتعددة في جيش قومي واحد يحمل عقيدة واحدة هي الحفاظ على الوطن والمحافظة على الديمقراطية والحكم المدني، وعبّر قائد الأفروكوم بطريقة غير مباشرة أنهم سيقدمون الغطاء العسكري لبعثة الأمم المتحدة في السودان تحت الفصل السادس، حتى تتمكن من تنفيذ مهامها الإدارية والإستشارية الملزمة لكل مكونات الحكم الإنتقالي، حتى يتم التحول والحكم الديمقراطي المدني خاصة وأن البعثة الأممية يمكن حمايتها دولياً، برفع الوضع في السودان إلى الفصل السابع إذا برز أي تهديد للتحول الديمقراطي- الفصل السابع يتيح لمجلس الأمن التدخل العسكري الكامل بواسطة جهة أو دولة يكلفها الأمين العام للأمم المتحدة- جهة مثل الأفروكوم أو أي دولة مجاورة.
البعثة الأممية التي وصلت السودان وبدأت العمل تحت الفصل السادس كما وصفتها في مقال سابق مثل (الألفة في الفصل)، هي عين الأمم المتحدة في السودان لحماية وتأكيد التحول الديمقراطي والحكم المدني، وهي مؤهلة بخبراء عسكريين، سياسيين، إداريين، وفنيين. لذلك هي للبعض (خازوق) وورطة، ولآخرين صمام أمان لحماية الحكم المدني الديمقراطي.
تجدر الإشارة إلى أن الأفروكوم قيادة عسكرية أمريكية عالية التسليح النوعي بتكنلوجيا رفيعة جداً، تقلل من الوجود المادي العسكري على الأرض وهي واحدة من (11) قيادة في العالم معنية بحماية الأمن القومي الأمريكي، الأفروكوم اختصاصاتها تشمل كل دول أفريقيا الـ(54) ما عدا مصر، التي تتبع للقيادة الوسطى المختصة بالشرق الأوسط وبعض مناطق آسيا.
لكل ما تقدم يجب على الجميع التفاؤل بما يحدث الآن والتعاون معه ودعمه، لأنه الفرصة الأخيرة لاجتثاث الدائرة الخبيثة في حكم السودان- حكم مدني قصير يعقبه انقلاب وحكم عسكري طويل.
لتحقيق ذلك يجب:
أولاً: على قوات حركات الكفاح المسلح التأكد من أن زمن الحروبات والبندقية قد انتهى إلى الأبد، وأن الحديث عن التهميش والعنصرية وأبناء الوسط والشمال والبحر قد زال تماماً، بعد أن تبوأت قياداتكم أرفع المناصب في السلطة التنفيذية والسيادية، وكذلك سيكون لها النسبة المؤثرة في السلطة التشريعية بعد تكوينها. أي حديث عن الماضي وعن التهميش والعروبة والأفريقية لا مكان له الآن وأصبح من الماضي البغيض، كل حديث في هذا الاتجاه أو التهديد المبطن والحقد الموروث على بعض أبناء السودان أصبح فاقداً للصلاحية، وسوف يؤدي إذا تواصل إلى تدخل دولي يفضي إلى إعمال المخطط المرسوم كبديل، وهو تقسيم السودان إلى دويلات ضعيفة كلها مغلقة دون منفذ بحري إلا دويلة الشرق إذا تم التقسيم الخماسي- دارفور، كردفان، الوسط، الشرق والنيل الأزرق.
ثانياً : على الحكومة الجديدة التمسك بكل اختصاصاتها وصلاحياتها المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، وعدم التفريط في أي جزء منها واستعادة ما فقدته سابقاً في الحكومة الإنتقالية الماضية.
ثالثاً: المضي بكل ثبات وثقة وقوة في تنفيذ السياسات الاقتصادية الجريئة دون تراخ أو استجابة لأي معارضة لها.
رابعاً: اتباع سياسة خارجية إيجابية وعدم التوجس من الإنحياز إلى محور دولي أو إقليمي يدعم استقرار البلاد ورفاهية العباد.
خامساً: إزالة كل مراكز القوة الاقتصادية في القطاعين العام والخاص، ومحاربة كل أشكال الفساد وتهريب ثروات البلاد النادرة المحمية بشبكات خطيرة محلية ودولية.
بتحقيق هذه التوجهات الخمسة يتم تأسيس السودان الجديد المستدام.