.
افريقيا السوداء كان يقال والى وقت قريب أنها جغرافيا بلا تاريخ بسبب عدم تدوين تاريخها كتابة ، لكن بالنسبة للسودان النوبي وهو جزء من القارة السوداء كان ذو تاريخ عميق الجذور ولا يمكن لباحث الحديث عن حضارة مصر الفرعونية التي شغلت وبهرت العالم دون التطرق للحضارة النوبية في كوش ونبته والتأثيرات المتبادلة بينهما. فالنوبيون الذين كانوا يقطنون المنطقة من جنوب اسوان متمددين على ضفتي النيل العظيم وأطرافه شرقاً وغرباً في اتجاه الجنوب قد أسسوا حضارة كانت منافسة للحضارة الفرعونية وظلت العلاقة بينهما في حالة مد وجذر حسب قوة وضعف الطرفين وكانوا يمثلون الجار المزعج لحكام مصرعبر التاريخ بغاراتهم المتكررة مما جعل حكام مصر يسيرون حملات تأديبية للنوبة لتأمين حدودها الجنوبية. وعندما ضعفت مصر الفرعونية غزاها النوبة وحكموها في عهد بعانخي الفاتح وترهاقا المؤسس. حيث كانوا حكام الاسرة الخامسة والعشرين من سلسبة حكام مصر. ومن هناك تمددت فتوحاتهم حتى وصلوا فلسطين لحماية اليهود الذين تعرضوا للاضهاد والسبي من قبل الاشورين وطارت شهرتهم حتى ذكروا في الاناجيل. وظل النوبة حكاما لمصر قرابة المائة عام ولم يخرجهم منها الا غزو الهكسوس الذي أجبرهم على التراجع الى ديارهم الاصلية جنوباً.
أن سيطرة امراء كوش بعانخي الفاتح وتهراقا المؤسس وحكمهم مصر الفرعونية صنفة مؤرخ الحضارات “ارنولد توينبي ” بعصر البطولات وذلك لتسيد حكام جاءوا من حضارة أقل كانوا يخضعون ولقرون لسيادة المحكوم سياسيا وثقافياً. هذا الحالة اوجدت حالتين فى طرفي نقيض بطل يزهو بالانتصار وأخر يجد نفسه يخضع لسادة جدد كانوا موضع احتقاره لزمن طويل وهذا هو الشعور الذي ظل يسيطرعلى عقلية المصري حتى اليوم ويجعله لا يقبل التفوق السوداني. ولكن هناك تنافض غريب فإن سيطرة حكام كوش على مصر استمر ودون مقاومة و لم يسقطهم المصريون بل اسقطهم غزاة جاءوا من الخارح.
إن تعرض مصر للغزوات اجنبية المتتالية منذ القدم أفرز شعب صبور على الحكام حتى الطغاة القساة منهم فتحققت انجازات حضارية ضخمة بدء من بناة الاهرامات فالحكم التركي المملوكي ثم حملات نابليون وانتهاء بالاستعمار البريطاني والتي في مجملها شكلت ثقافة وموروثات مصر اليوم.
وما ينبغي فهمه أن مصر هي الاقرب الينا شعبيا فهناك خصوصية في العلاقات بين افراد البلدين .لكننا الابعد والأبغض على مستوى الحكام ويصح تسمية البلدين بالاخوة الاعداء وقطعاً لذلك اسبابه. ونستطيع أن نقول أن مصيبتنا دائماً في السودان هو حكامنا الغافلين عبر التاريخ ونسوق لذلك مثالاً. عندما تمددت الفتوحات الاسلامية ومحاولة فتح بلاد النوبة جنوب مصر استعصى ذلك على المسلمين وظلوا يحاولون لأكثر من عشرة سنوات دون أن يتمكنوا من هزيمتهم ودخول بلادهم فاتحين، حتى تولى عبدالله ابن السرح ولاية مصر في عهد الخليفة عثمان بن عفان. ويقال أن عبدالله ابن السرح قاد حملة الفتح بنفسه فحاصر مدينة دنقلا التي كانت تسمى “دمقلا” وبعد اشتداد الحصار عليها ورميها بالمنجنيق اضطر ملكها واسمه “كالديرات أو قليدروس” لطلب الصلح والجنوح للسلام بتوقيع ما سمي بمعاهدة “البقط ” بعد معاناة المسلمين الشديدة في حربهم مع النوبة الذين كان بأسهم شديداً على الفاتحين ، حتى سماهم المسلمين رماة الحدق لأن سهامهم كانت لا تخطئ و تصيب الجباه والعيون فقال شاعر المسلمين:
لم تر عيني مثل يوم دمقله *** والخيل تعدو والدروع مثقلة.
ترى الحماة حولها مجدلة *** كأن ارواح الجميع مهملة.
عندما قلت أن مصيبة أهل السودان منذ القدم في حكامها فإني أدلل بذلك البند المذل والمهين في معاهدة البقط والذي نص صراحة على الآتي :
” تقدم دولة المقرة (النوبة) عدد (360) عبداً سنوياً الى والي مصرعلى أن يكون هؤلاء العبيد صحيحي الابدان ليسوا من العجائز أو الاطفال ويكونوا خليطاً من الذكور والاناث يضاف اليهم ( 40) اربعين عبدا يوزعون على وجهاء ولاية مصر “
ومن ذلك التاريخ فرض حكام النوبة الذلة على شعبهم ليقدموهم عبيداً أذلاء في خدمة الآخرين ، وبدأ تقنين الاسترقاق ومارسه النوبة على بعضهم البعض. وحقيقة لم استطع توفيق قراءة هذا البند من المعاهدة التي فرضها حكام مسلمين تحملهم تعاليم دينهم على منع الرق. وقد استمر العمل بمعاهدة ” البقط” نحو اربعة قرون ولم يتوقف العمل بها إلا ايام فتنة الامين / المأمون حيث تمرد ملك النوبة زكريا الثالث وامتنع عن دفعها. ثم استؤنف العمل بها مرة أخرى بعد مفاوضات مع الخليفة في بغداد.، حتى تم الغاؤها بالكامل في عهد السلطان المملوكي الناصر محمد قلاون بانهيار دولة المقرة في عام 1323م. وطوال هذه المدة ظل حكام المقرة هم الذين يصطادون مواطنيهم ويقدمونهم عبيداً لجيرانهم في مصر. فتاسست لدى المصريون ثقافة عبودية أهل السودان والتي ظلت تطفوا على أجهزة الاعلام المصري الموجه من وقت لآخر وينعتوننا بها كلما حدث خلاف سياسي بين البلدين.
أما الحالة الثانية والحديثة التى تؤكد أيضاً أن مصيبتنا دائماً في حكامنا وغفلتهم هي تجربة بناء السد العالي في عهد حكم الفريق عبود ومأساته المريرة بأغراق مدينة حلفا القديمة وما جاورها من قرى باثارها الحضارية والتاريخية. لقد غمرت المياه المنطقة فمسحت مجد حضارة كاملة والتضحية بها لمصلحة ورفاهية الآخر الاجنبي. وياليت كان هناك تقدير لهذه التضحيات والتي ترتبت عليها اُثار اقتصادية وسياسية واجتماعية سالبة بل ونفسية على أهل المنطقة الذين لم يستطيعوا تجاوز ماساة ماحدث حتى اليوم.
كل هذه التراكمات التاريخية أوجدت حالة من التوجس وعدم الطمأنينة لدى الشعب السوداني من كل السياسات المصرية تجاه السودان. ولتصحيح ذلك فإن البلدين بحاجة ان تخطوا خطوات جادة في العمل المشترك لإعادة بناء الثقة المفقوده.
سعدت جداً بزيارة حمدوك وبعض وزراء حكومته مؤخراً الى مصر ومستوى الحوار الصريح والشفاف وما ورد عن حمدوك بأنه قد حان الوقت لطرح ومناقشة المسكوت عنه بين السودان ومصر ومعالجته من خلال برامج مشتركة وخاصة فيما يتعلق بالصورة النمطية التي يحملها المصرى عن السوداني وأنا هنا افصلها أكثر فالسوداني في نظرهم هو محمد صالح وعثمان البواب وحكاية السودان هو “بتوعنا” والنظرة الدونية والتنمر والتعالي المصري. تلك المفاهيم المغلوطة التي ظل يعززها الاعلام المصري الموجه سياسياً. قطعاً هي مرفوضة وإن أفرازاتها هي مزيداً من العداء والكراهية لمصر.ولابد من معالجتها بصدق وليس بالفهلوة التي تجعل الحكومة المصرية دوماً هي المستفيد.
أعجبت أكثر بالنقاش العميق الذي تم بين الطرفين بمركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية وما تمتع به من صراحة. ومن أهم النقاط التي اتفق عليها المتحدثين هي أن مصر قد لعبت يوما ما دوراً مقدراً وداعما لحركات التحرر في افريقيا وساندت نضال الوطنيين فيها من أجل التحرر والاستقلال. لكن تلك حقبة قد أنتهت فالمطلوب اليوم أن يتحول دور مصر الى مفهوم وعصر التنمية وينبغي عليها أن تقدم خبراتها الاستشارية في مجال الصناعة والتعليم والصحة وتؤسس مشاريع تنمية مشتركة مع بلدان القارة الافريقية على أن يترجم هذا التوجه في مشروعات مشتركة ناجحة بين مصر السودان لتكون نموجاً يقتدى به في التعاون الثنائي والجماعي مع دول القارة الافريقية. لأن مصر دابت على بناء علاقات عامة دون ان تقدم دعماً مادياً ملموساً في مجال التنمية لأي من الدول التي تعاملت معها في افريقيا.
في الختام نقول أنه بخلاف اعادة بناء الثقة بين السودان ومصر على المستوى الرسمي والشعبي بالعمل المشترك الجاد وتصفية مابين البلدين من شوائب ستظل الفجوة والتباعد في العلاقات في اتساع مستمر خاصة أن هناك ما يزيد الفتق.