ما قام به السودانيون في ثورة ديسمبر من انتصار سلمي على أعتى دكتاتوريات أفريقيا يعتبر أمرا اشبه بالمستحيل، فقد كان كل شيء من حولهم ينبيء باحتمال انزلاق البلاد في أتون حرب أهلية مدمرة، فالاقليم من حولهم مضطرب ومليء بالحروب التي أعقبت ثورات شعبية مماثلة، بالإضافة إلى وجودهم في بلاد تعاني من حروب طويلة الأمد، مع وجود أكثر من أربعة جيوش مسلحة داخل البلاد، هذا بالإضافة الى مجابهتهم لتنظيم ديني مهووس بالقتل والإبادة.
رغم كل ذلك لم يتخلى الشعب السوداني عن سلميته، سقط عشرات ثم مئات الشهداء وآلاف المصابين ولم تفتر عزيمة الثوار ولم تلن لهم قناة، وما حملوا سلاحا ولا مطرقة بل وقفوا كما وقف الشهيد عبدالعظيم شامخين امام الرصاص والبمبان حتى انتصروا. ما فعله الشعب السوداني طيلة خمسة أشهر من التمسك بالسلمية رغم المنعرجات الخطيرة التي مرت بها الثورة والتي كانت كفيلة بدفع أي شعب لحمل السلاح، يعتبر أعظم دور قام به شعب في العصر الحديث من أجل المحافظة على القيم الأخلاقية في منازلة الطغاة، لذلك نتشرف أن نقول بأن ثورة ديسمبر كانت ثورة قيم واخلاق، فالقيم التي حملها شعار الثورة الأشهر ( حرية، سلام ،عدالة )، كان معبرا بالضبط عن النقيض الذي كان يحمله نظام المخلوع، الذي أدمن القهر واحترف الحروب وأمن بالظلم.
منهجيا قامت حركة الإسلام السياسي على هوس الغاية تبرر الوسيلة، لذلك لم يتورع اعضائها عن ارتكاب كل الموبقات من أجل تحقيق شعارهم: الإسلام هو الحل، انقلبوا على السلطة، شردوا المخالفين لهم في السياسة، اعلنوا الحرب الدينية على أبناء الجنوب، استقبلوا كل المتطرفين الإسلاميين في السودان ووفروا لهم الحماية والأرض والسلاح، اقاموا بيوت الاشباح ومعتقلات التعذيب تحت الارض واستباحوا الوطن طولا وعرضا بذريعة انهم جاءوا لبعث الإسلام!!
لم يمض على حكمهم الكثير حتى أكتشف الشعب الخديعة والكذب الصريح الذي يمارسه الإسلاميون، اذ لم يمض وقت طويل حتى امتلأت جيوبهم وتضخمت ارصدتهم البنكية وارتفعت بيوتهم من طين إلى اسمنت مسلح، وأصبح واضحا انهم لصوص سرقوا السلطة من الشعب لا ليقيموا عدل الإسلام ولا ليعيدوا حكم الفاروق، بل ليمارسوا أكبر تجارة باسم الدين في تاريخ السودان، وليطبقوا أسوا الأنظمة الدينية عبر تاريخ المنطقة.
لذلك فثورة ديسمبر ليست انتفاضة جوع، بل انتفاضة لاسترجاع القيم التي ضيعتها جماعة البشير والترابي، واستعادة هوية شعب شوهها نظام الانقاذ وحولها من أمة عريقة التاريخ إلى مسخ مشوه لا يسر صديق ولا عدو، ومن هذا المنطلق فإن ثورة ديسمبر ثورة أخلاقية يجب أن تعيد ترتيب القيم الحقيقية في الشعب من حرية وسلام وعدالة، فانتشار هذه القيم سوف يعزل تلقائيا كل لصوص الدين وكل الكاذبين، وسوف يحاسبهم اخلاقيا بشكل يومي حيثما ذهبوا. مهم ان نوالي جميعا زراعة بذور القيم الصحيحة وان نتعهدها بالرعاية والعمل وتقديم الانموذج، فالميدان الوحيد الذي يمكن ان يهزم الكيزان والانقلابين والفاسدين إلى الأبد هو ميدان الأخلاق. اذا نجحت الثورة في ميدان الأخلاق فسوف تشرق شمس الوطن، وإن سقطت فيه فالوطن إلى الحضيض.
sondy25@gmail.com