الأحد ٢١ مارس ٢٠٢١
صحيفة الديموقراطي
بعض المُحلِّلين يُطلقون على (الإنفراط) الأمني الذي يحدث حالياً بالعاصمة الخرطوم مصطلح (سيولة أمنية) ، وللحقيقة فإن هذا المصطلح لا يصلح للتعبير عن الظاهرة لأنه يصطحب معه على المستوى الواسع للتفسير ، منظورات سياسية لا يمكن تجاوزها ، من أهمها عدم (تأكيد) النجاح الكامل والنهائي لملحمة تفكيك وإزالة الدولة العميقة للنظام البائد ، وكذلك عدم القدرة على برهنة وإثبات أن الحكومة الإنتقالية قد (سيطَّرت) تماماً على كل عوامل إستتباب الأمن المجتمعي وفي مقدمة هذه العوامل (إنتشال) المنظومة الشرطية والأمنية من مستنقع الشخوصية وسيطرة الحزب الواحد إلى (براح) القومية والمؤسسية المُستهدِفة للمصلحة العامة.
على مدى الإسبوع الماضي بالتحديد ، شهدت العاصمة أبشع صور لنشاط غير إعتيادي للجريمة المؤطَّرة بالعُنف المفرط وبأساليب وأدوات وتوقيتات غير معتادة ، جعلت كل المُتشكَّكين يتراجعون ويُقرِّون بأن إنفلاتاً أمنياً في طريقه للمثول ، وذلك عبر تحليل منطقي وبسيط فيما تم رصدهُ من جرائم (إستثنائية) في حيثياتها وغريبة الأطوار عن سابقاتها ، بدأت بمقتل طالب كلية المختبرات الطبية بجامعة أم درمان الإسلامية على مرمى عشرات الأمتار من الحرم الجامعي وفي تمام الساعة السادسة والنصف صباحاً ، والغنيمة التي إستهدفها مُرتكبي الجريمة مُجرَّد نهب هاتفهُ السيَّار ، ثم ما تلا ذلك من أحداث مُتعدِّدة أهمها مقتل شابة في أم درمان بنزيف داخلي في الدماغ بعد إصطدام رأسها بحجر أثناء وقوعها جراء مناوشة مع شخصين يمتطيان دراجة بخارية أثناء محاولة نهب حقيبتها وهاتفها السيَّار ، أما آخر أخبار الإنفلات الأمني غير المسبوق والذي على ما يبدو أنه الآن في طور (الإعلان) الأولي إن لم يلتفت وينتبه أولي الإختصاص ، فهو مقتل وكيل محطة النيل أنرجي بأم درمان في مكتبه بالمحطة ونهب جُل الإيراد اليومي للمحطة والذي يُقدَّر بالمليارات ، وأيضاً في وضح النهار وعلى بعد أمتار معدودات من موقف مواصلات الثورات وعلى مقربة من عشرات المحلات على إمتداد السوق الشعبي أم درمان.
عدم (إعتداد) مُرتكبي هذه الجرائم بمحاولة (التَّخفي) والإستتار بالظلام أو ممارسة هذه الجرائم في الأماكن النائية وغير المأهولة (خوفاً) من الإعتقال والمساءلة القانونية ، يجعلنا مضطرين أن نُلفت إنتباه الجهات الشرطية والأمنية ، إلى أن ما يحدث هو إشارة إلى (إستحداث) ثقافة إجرامية جديدة ، تتعلَّق بحساسية المُجرمين تجاه (العوامل) التي كانت تدفعهم للخوف والترَّدُد من ممارسة جرائمهم في الأماكن العامة والمأهولة وعلى مقربة من المراكز الشُرطية ، وفي أوقات لم تكن أبداً يتوقع فيها جرائم النهب القسري والقتل ، فالأسواق في الماضي كانت أقصى جرائمها (النهارية) لا تخرج عن جرائم النشل وبعض السرقات التي يقع معظم ضحاياها تحت طائلة الإهمال والغفلة عن ممتلكاتهم ، هذا فضلاً عن جرائم الإحتيال والتدليس والغش التجاري ، أما النهب المُسلَّح المودي إلى قتل الضحايا في وسط الأسواق والمناطق المأهولة والمُكتظة وفي وضح النهار ، فذاك لعمري (نهجٌ جديد) يستدعي من جهات الإختصاص الدراسة العميقة وإعادة النظر في الترتيبات الإستراتيجية الخاصة بتحقيق مبدأ (منع وقوع الجريمة قبل حدوثها) ، وذلك عبر توسيع دائرة التواجد الشرطي والأمني حتى في الأماكن غير المتوقعة وفي الأزمان التي كنا نعتبرها سابقاً (آمنة) ، فالموضوع ليس بالبساطة التي تجعلهُ محصوراُ في مُجرَّد تنظيم ومتابعة وتدقيق أمر الدراجات البخارية ، فإن لغيتموها تماماً أو تم منعها فسيأتون بوسائل أخرى وإن تعذَر عليهم الأمر فربما أتوا راجلين ، الموضوع لا ينحصر في مُجرَّد وسيلة إرتكاب الجريمة ، بقدر ما هو (تحوُّل) كبير وهام في ثقافة إرتكاب الجريمة وشروط تنفيذها ، كل ذلك قاب قوسين هما : إهتزاز هيبة المنظومتين الشُرطية والأمنية ، بالإضافة إلى ضعف الحِس الأمني المجتمعي.