عبد العزيز.. جُرحٌ جديدٌ ينزفُ فى كبد سوداننا المُثخن بكثيرٍ من الجراحات، فتىًّ حمل معه أحلام أمه في أن تراه “دكتور” كما يُنادىٰ كل أهل المهن الطبيَّة فى مناطقنا فى قرى الجزيرة وحولها.. كان أباه يرقب خطى الفتى التي اقتربت ليتحمَّل معه المسؤولية ويعينه على تهوين رهق الحياة.. وفجأة تبدَّد ذلك الحلم بأيدي آثمة في وضح النهار.. اغتالت حلماً ندياً من أحلام سودان الغد، فكانت الطعنة فى خاصرة الوطن قبل الشهيد.. مأساة ابكت الشارع وأخرجت العديد من التساؤلات حول وطنٍ بات حلم الشخص فيه أن يسير آمنا داخل حرم جامعته أو ينام ملء جفنيه داخل بيته.. فالكل لا يعبأ كثيراً بألم المجاهدة اليومية فى ظلِّ الأزمات الطاحنة والتى لا تقل أهميةً عن الأزمة الأمنية، ولكن فى رأيِّى أنها الأكبر والأعصى، فبغير أمنٍ لن يستطيع الجائع أن يتناول طعاماً قُدِّمَ له أو دواءً صُرِفَ لمريضٍ فتزهق أرواحهم قبل تناول الطعام أو أخذ الدواء.
هذه أمثلة حيّة نتاج تلك التفلتات الأمنية، وكل ساعة تردنا فظائع مرتكبة فى سوداننا الكبير يشيب لها الولدان ويرتفع لها حاجب الدهشة باعتبارها دخيلةٌ على مجتمعنا المتعايش بسماحة أهله وتكافلهم وسلميتهم المكتسبة بالفطرة السليمة، وحقَّ لنا التساؤل من أين أتت هذه الظاهرة وكيف يمكن ردعها؟؟؟
فى الرد على الشق الأول من السؤال نجد أن أصابع الاتهام تشير بصورةٍ واضحة لتورط جهةٍ لا ترغب فى استتباب الأمن وتريد زعزعته بخلق مثل هذه الأحداث، ولا يخفى على أحد من هي تلك الجهة التي توَّرطت من قبل في جرائم وفظائع أليمة بحق شعبنا، ولا زالت تقوم بتجنيد عصابات تجمع مرتادي الإجرام لإثارة البلبلة والقلاقل حتى يشعر الناس بالندم على ثورتهم مع تباطؤ وتواطؤ بعض الأجهزة الأمنية المشبعة بالولاء للنظام البائد بنسبة كبيرة، مما أثَّر بشكل مباشر في تردّي الأوضاع الأمنية وانتشار الجريمة بهذا الشكل البشع، لا سيما وقد تراخت أجهزة الأمن في ردع وحسم المتفلتين، وقد سمعنا فى بعض المقاطع التي سجّلت حالات التفلُّت ردوداً لبعض منتسبي تلك الأجهزة وهم يعلِّقون بتهكُّم وازدراء: (مش دي المدنية الدايرنها؟؟)
ما زاد الطين بلَّة وجود تلك الأعداد الهائلة من القوات والحركات المسلحة تجوب أرجاء العاصمة وعلى رأسها قوات “الدهس السريع” أو كما يُعرف عالمياً باسم الجنجويد، وهى بدورها خلقت مزيداً من الفوضى باعتبارها مليشيات لا تخضع لقواعد الضبط والربط المعروفة لدى أيٍّ من القوات النظامية وأصبحت العاصمة مسرحاً لاستعراض قوَّتها وعتادها وجعلت من تداول الأسلحة أمراً معتاداً بين المواطنين بل ساهمت بشكلٍ أو بآخر فى بعض حالات الإحتيال وانتحال شخصية “رجل الأمن” كما حدث مع كثيرٍ من المحتالين لأنه من الصعب التمييز بينها، فصار بمقدور أي فرد إدِّعاء انتمائه لأي فصيل، وما على المواطن إِلاَّ الإذعان فى مشاهد أكثر دراميةً منها أمنية، وهو امرٌ فيه تجاوزٍ فاضح من كافة الأطراف الموقعة على اتفاقية السلام الأخيرة، والتي حدَّدت مواقع تواجد قوات الحركات المسلحة خارج العاصمة إلى حين دمجها في إطارٍ زمنيٍّ معين حددته الإتفاقية لتصبح الحكومة والموقعين هم أوَّل من خرق ذلك الإتفاق.
نعود للمواطن المغلوب على أمره وهو يواجه ظروفاً استثنائية ويحارب وحده فى عدة جبهات لا قدرة له عليها جميعاً، بدايةً بالحالة الإقتصادية المزرية، وتفاقم الأزمات المعيشية، وانعدام الخدمات الصحية، ليضاف إلى ذلك كله الغياب التام للأمن، وبإذنٍ ومباركةٍ من الحكومة (بشقَّيها المدني والعسكري) التي آثرت التغاضي عن معاناة شعبها وعدم احترامها لهمومه وحل أزماته، ويبرز هنا دور الشق العسكرى الأكبر فى عدم الجدية لحسم التفلتات الأمنية، وهو بذلك يساهم فى استمرارها بل وتفشّيها ويغضُّ الطرف عنها، والأدهىٰ والأمر أنه يشير بلا خجل الى فشل الحكومة المدنية، متناسياً انه جزءٌ أصيلٌ من فشل الحكومة فى الجانب الأمني. هذا الأمر يذكّرنا باجتماع الثوار بالعسكر أثناء الثورة وكيف أنه كان الخطأ التاريخي الذي وقعت فيه أعظم الثورات فى التاريخ الحديث، ولا ينسينا كل ذلك دور الشق المدني فى تحمُّل المسؤولية والتقاعس عن حث العسكر في القيام بواجبهم، وحراسة مكتسبات ثورتهم.
نعود لطرح الحلول في أمر التفلتات الأمنية:
أولاً: أن تقوم القوات الأمنية وعلى رأسها قوات الشرطة بدورها الهام في حسم الفوضى ووأد الجريمة في مهدها، وحتى تقوم بذلك على أكمل وجه، يجب تصحيح مسارها وازاحة كل متواطئ مازال يدينُ بالولاء للنظام البائد فى حملةٍ تطهيريةٍ جادّة تزيل بقايا المتآمرين، وتُبقي على الوطنيين الخُلَّص من أصحاب الولاء للوطن.
ثانياً: يجب الإلتزام باتفاق السلام والخاص بتحديد أماكن تواجد قوات الحركات حتى يتم دمجها، والقيام بحملة واسعة لجمع السلاح والذي أصبح متاحاً داخل الأحياء، ويجب أن يعلم الجميع أن أمن المواطن خطاً أحمر لا مساومة فيه ولا تهاون، وقد تابعنا بأسفٍ شديد المحاصصات التى تمت فى الحقائب الوزارية الأخيرة، والتي يجوز لنا أن نطلق عليها “جود من لا يملك لمن لايستحق..” فقد صبر الناس رغم تضحياتهم الجسيمة مهراً للسلام، ولكن عندما يتعلق الأمر بأمنهم فلا مناص ولا جدوى للسلام، وإذا أصبح الموت هو المصير المحتوم ليُقتل المواطن مغدوراً على يدِ لصٍّ أو مُرتزِقٍ مأجور وكأنها حرب شوارع.. فالحصيلةُ تبقى واحدة، وهي إزهاق الأرواح الطاهرة لإنسان السودان ونقل الحرب من ميادين القتال إلى داخل الأحياء وإبطال الدافع الأول، لتصبح الجرائم هي تعدِّي صارخ على حق الحياة.
نتمنى أن تمر الأزمة بسلام، وأن يفيق المسؤولون قبل فوات الأوان وقبل أن يصير الوطن “بؤرة فساد” تنشط فيه العصابات الإجرامية ويضيع إنسانه النبيل، وتُغتال أحلام بنيه، وتُسرق ثورته العظيمة التي مُهرت بدماء أبنائه وبناته العُزّل السلميِّين، تلك الثورة التي وقف لها كل العالم إحتراماً وإعجاباً، وأصبحت حديث الناس فى كلِّ بقاع الأرض.
كسرة أخيرة
أخي المواطن/ أختي المواطنة
كُن أكثر حرصاً على حياتك وحياة الآخرين، واتَّبع الإرشادات الصحيِّة الخاصة بالحد من انتشار الكورونا لمنع المزيد من الكوارث والمرارات.
واللّٰهُ من وراءِ القصد
واللّٰهُ المُستعان