إبان عهد الحكم العسكري المايوي للبلاد اتخذت كثيرٌ من الأحزاب السياسية معارضة اعتمدت على حمل السلاح وسياسة التخريب وإحداث الإضطرابات داخل المدن وبالأخص الخرطوم لدفع المواطنين على معارضة النظام، وقد وصلت هذه الظاهرة أوجها وكانت أوضح صورها في ذلك العهد بعد خروج الجبهة الإسلامية من تحالفها مع نظام مايو الى المعارضة حيث قامت بعمليات واسعة لتخريب الإقتصاد وإحداث ضائقة معيشية لزيادة الإضطرابات في البلاد ومن ثم الثورة على نظام الحكم القائم.
ويبدو أن هذه الظاهرة قد ترسخت في التعامل السياسي لدى الكثير من أحزابنا وتجذَّرت بصورةٍ كبيرة لدى الأحزاب العقائدية ونخص منها هنا الحركة الإسلامية، فحتى خلال حكمها في عهد الإنقاذ البائد كانت تستخدم هذه الظاهرة في حسم خلافاتها الداخلية وإن لم تتخذ صورة العنف المباشر أو الفوضى العارمة ولكنها كانت تعمد الى تشويه الصورة وقتل الشخصية وبث الشائعات مستهدفة في ذلك إزاحة عناصر محددة من المشهد السياسي أو تحجيم دورها.
وبعد نجاح ثورة ديسمبر المجيدة في العام 2019م وسقوط نظام الإنقاذ سيئ الذكر، وجدت كثيرٌ من القوى المستفيدة من ذلك النظام سياسياً أو اقتصادياً نفسها في مهب الريح وقد تضررت مصالحها، أو كادت أن تزول لا سيما في حال سيطرة الثوار على مقاليد الحكم، ومُكون هذه القوى ليس فقط الحركة الإسلامية التي تمت ازاحتها عن السلطة، بل بعض القوى السياسية والإقتصادية الأخرى التي استفادت وانتفعت من وجود نظام الإنقاذ والتي خلقت لنفسها وجود وسلطة أصبحت تخشى عليها من الزوال بذهاب النظام السابق الذي كان يساندها بتبادل المنافع.
يخبرنا المشهد الحالي في السودان ببعض هذه القوى التي تضاربت مصالحها مع ثورة ديسمبر ممثلة في أحزاب التوالي التي والت نظام الإنقاذ حتى سقوطه، وبعض الحركات المسلحة التي استفادت من النظام السابق وتصالحت معه، وبعض الحركات المسلحة الحالية التي وجدت نفسها في مواجهة مع الحقيقة بعد زوال نظام الحركة الإسلامية وانكشفت عوراتها على المستويين المحلي والدولي بعد أن أصبح الوضع الراهن يمنح الحق والحرية لكل المكونات السياسية المدنية لممارسة نشاطها بديمقراطية وليس عبر حمل السلاح. ولا نستثني أيضاً قيادات الجيش والأجهزة النظامية ومليشيات الدعم السريع ومليشيات القيادات الأهلية المختلفة والتي استفادت من عهد الإنقاذ البائد وحققت مصالح إقتصادية أصبحت تخشى من زوالها.
الآن وبعد مرور عامين على ثورة ديسمبر الظافرة، ما زال مشهد الصراع بين قوى الثورة وقوى المصالح الذاتية قائم، هذا الصراع الذي أوجد مذبحة القيادة العامة وفقدان العديد من شباب الوطن وزاد من هشاشة الأوضاع الأمنية في جميع ارجاء البلاد، ولم تسلم منه حتى العاصمة الخرطوم والتي كانت محصنة لسنوات عدة من أي فوضى أمنية. لم تستطع القيادة المدنية الجديدة سواءً كانت ممثلة في الحاضنة السياسية “قحت” أو مكونات الحركات المدنية الأخرى أن تنازع قوى المصالح الذاتية وتقهرها لصالح بسط الأمن في البلاد، وذلك لسبب بسيط هو أن هذه القوى ما زالت ممثلة في الحكم وتبسط سيادتها الكاملة على القوات النظامية التي ظلَّ أوجب واجباتها هو تنفيذ الشق الأمني وتعزيزه.
في خضم هذه المغالطة الغريبة والصورة الشائكة بالغة التعقيد لمصالح كل القوى التي تحمل السلاح سواءً كانت نظامية أو مليشيات أو حركات أو قوى جهوية أخرى،
لم تظهر تحالفات جادة بين القوى المدنية والحزبيه لتفرض الهيبة وإعلاء مصلحة البلاد على المشهد السياسي رغم الدعم الشعبي والدولي الكامل للإنتقال السلمي للسلطة والحكم المدني في البلاد، فصارت البلاد تعيش حالةً من الفوضى الأمنية، وشهدنا حوادث لم نكن نظن أنها قد تحدث في السودان لترابط نسيجنا الإجتماعي وتواثق عرى التفاهم بين مختلف مكونات شعبنا.
حوداث النهب والقتل وإشاعة الترهيب بين الناس صارت تحدث دون تحرك من القوى النظامية التي تٌتهم بالتقصير والغياب التام من المشهد العام، بل أن هنالك أصابع اتهام تشير لبعض تلك القوى بالمساهمة في هذه الأعمال بإستخدام معتادي الإجرام لإحداث فوضى تؤدي الى اضعاف الحكم المدني الذي اختارته قوى الثورة لتعيد البلاد الى مربع الحكم الشمولي.
وهنا يأتي اللعب بالنار، فأيّاً كانت القوى وراء تلك الأحداث، عليها ان تعلم جيداً أن الحريق إذا بدأ فلن يصيب المستهدف فحسب، ولكنه سيتطاير ليعم الجميع ويلتهم كل شئ بمن فيهم اولئك الذين يشجعون على مثل تلك الأعمال المُشينة.
لقد ساهمت إتفاقية السلام الهشَّة والموقَّعة حديثاً في تأزم الوضع الأمني خاصة في الخرطوم، بحضور قوات الحركات المسلحة واستيلائها على مواقع وسط سكان العاصمة، لتأكيد أن من وقع اتفاق السلام من قبل الحكومة (وهو الشق العسكري بمجلس السيادة) لم تكن لديه رؤية واضحة في التعامل مع هذه القوات، وقد ساعد تواجد هذه القوات في بث الخوف والذعر وسط المواطنين في ظل تقاعس قياداتها عن التعامل الجاد في هذا الأمر.
يظل الوضع الأمني بالبلاد من مسئولية المؤسسة العسكرية التي تترأس مجلس السيادة وتحمل السلاح وهو أوجب واجباتها وليس للشق المدني من الحكومة كبير الأثر في التعامل مع هذا الوضع في ظلِّ إصرار العسكر على الإحتفاظ بحقيبتي الدفاع والداخلية، وفي ظلِّ غياب المجلس التشريعي الإنتقالي الذي كان بإمكانه أن يلعب الدور الرقابي والمحاسبي حتى على القوات النظامية بكل مسميَّاتها، وفي ظل تناحر القوى المدنية والأحزاب السياسية وضعف تحالفاتها وتركيز الكثير منها على مصالحه الحزبية دون مراعاةٍ لمصلحة الوطن.
ان الدور المناط بنا كقوى سياسية مدنية هو التعامل الجاد مع ظاهرة التفلت الأمني فضررها لن يصيب فئة دون أخرى وضعف الأمن لن يخدم مصالح معارضة سياسية بل يقضي على الجميع ويهدم أعمدة الوطن على من فيه دون إستثناء، فلا منتصر من غياب الأمن على الإطلاق، وأيضاً نطمح في دورٍ إيجابي وريادي للإعلام ليبادر في كشف من هم وراء هذه الظاهرة، وحقيقةً افتقدنا للصحافة الإستقصائية في إعلامنا المقروء والمرئي والمسموع لسنوات كثيرة، هذا إن لم تكن معدومة أصلاً، وهي المناط بها في حال وجود النزاهة والجرأة أن تسهم في إظهار الحقيقة دون خوف.
سنظل نحن في القوى المستقلة الحرة نُسخِّر كل إمكانياتنا للتعامل بكل مصداقية وشفافية مع هذه الظاهرة المرفوضة، ولن نتوانى في فضح مرتكبيها والمنتفعين منها، ولن نركب مع الآخرين في قارب الصمت تجاه أعمال تخريب وترويع إن تواصلت في الإنتشار فحتماً ستؤدي إلى فوضى لن تخدم غير أعداء الوطن والمتربصين به.
نسأل اللّْه أن يحفظ بلادنا من كل مكروهٍ وسوء.
واللّٰه من وراء القصد
واللّٰه المستعان