– نهاية وجه ساحر لحياة يا لقسوة الحياة ويا لها من خادعة ومخادعة.
يصاب منا الفرد ويموت بالجائحة فيحمله الطاقم الصحى و تذهب به عربة الموت للحظات يودعه فيها بيته ويودع اقرب الأقربين، وتتحرك العربة الى قبر دامس، موحش و يتم دفنه دون وداع من احد. كل ما كان من تقاليد و التفاف اجتماعي على المصاب يهرب – يتبخر – كل ما كان للسودانيين من حيل، وتحايل على اوجاع الفقد تفشل- كل ما كان من صخب اجتماعيات الموت يصمت وينزوي – كل الطقوس تغيب وكانها كانت ضربا من الاساطير والأكاذيب العابرة. فقط هى الوحدة تسحق الموجوعين لوحدهم. فقط هو ليل يتلوه نهار من الحجر الصحى الاجبارى يشرب من دمهم، ودموعهم، و يحرض عليهم اصوات انينهم، و نزول قطرات حزنهم التي لا تنضب. كنا في غض الشباب او يافعين ببداية العشرينيات، طلابًا كنا وطالبات ندرس بعاصمة الثلج.وكنت وناصر الطيب المك من معهد السينما بعض من اصدقاء مقربين لعلاء وربما كان هنالك على حمدان، وبشرى الفاضل، ومحمد عوض كبلو، وابوذكرى وبدوي محمد الامين والدرديري اسماعيل. كنت وعلاء الدين الجزولي نلوذ احيانا في سكن مشترك عند اشتداد الغربة وعلى نبرتها، وتعاظم الحيرة حسن تحاصرنا بسياجها العصي الكسر والانكسار. اقيم معه لايام بداخلية معهد سوريكوف للفنون الجميلة فتمضي ايامنا في متعة مفتوحة من الجلسات، و النقاشات، و تبادل الكتب، و الاعمال الفنية، والادبية، نخرج في اوج الثلج والصقيع الى السينمات و المعارض التشكيلية ومعارض التخرج بكليتهم، والمسارح، وفي الصيف نسرح في الحدائق وشوارع منتصف المدينة واحيانا نتسكع في ساحة الكرملين او معرض المنتجات السوفيتية القريب من فندق الكوسموس وسكتنا الطلابي مطلقين العنان لاخيلتنا نحلم بغد مغاير لسودان خالي من عراقيل الطيران، و موانع الاقلاع للافكار الإبداعية. علاء كان يعرف الحياة كظاهرة تشكيلية مثله مثل استاذه واستاذنا عبد الله بولًا الذي احبه وبادله حبا بحب منذ ان تتلمذ علاء على يد بولا بكلية الفنون الجميلة بان اصبح واحدا من دائرة تلامذته التاريخيين كحسن موسى، وهاشم محمد صالح، وبشرى الفاضل، وصديقا اثيرا له. كانت لواقعة فصل علاء الدين الجزولي وهاشم محمد صالح من كلية الفنون اثرها المباشر لكتابة بولا لمقالاته ذائعة الصيت والتي نشرت باسم مصرع الانسان الممتاز – وفيها بصفحة الفن التي كان يحررها حسن موسى بصحيفة الايام . عبر بولا عن جم غضبه النقدي الفلسفي باكرا لمؤسسات التعليم النظامية العليا وكمون النظرة الاعاقية في مناهجها ورؤيتها للانسان. اذاق بولا في تلك المقالات (التي تحولت الى كتاب فيما بعد) الاكاديميا السودانية كشفا لاذعا في تساوى موقفها مع المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية ذات الغرض في عدم تبصير البشر بسعة قدراتهم وعمق تجاربهم وقدراتهم الخلاقة القابلة للمزيد من التفجير و والقادرة على بناء واقع جديد مختلف. فالمعايير التي اتخذتها المؤسسة النظامية العليا لتعريف الطلاب الناجحين لم تخرج من تعريف الطلاب والطالبات (الموهوبين بنظرها) خارج قدرة النقل البصرى الايضاحي للمرئيات والواقع دون اضافة رؤيتهم الخاصة له وتسجيل زوايا نظر جديدة و بصمات خاصة بهم. التقيت به باواخر السبعينات بمنزل بولا وخرجنا في ذلك اليوم مساءا كمجموعة لمنزل محجوب شريف بمناسبة زواجه من اميرة الجزولي. اذكر ان في تلك الليلة كان من المتوقع ان يغني وردي في الحفل وكانت تلك ايام راحت فيها اغنية جميلة ومستحيلة التي قفز بها وردي مراحل من الابداع الموسيقي واذكر اننا قبل وصولنا المناسبة توقفنا نتبادل التعارف والانس ونحن جميعنا في الطريق الى الحفل بالمحطة الاوسط بامدرمان والتي كانت تزخر بالحياة والبشر وقتها. وصلنا بين المناسبة وفوجئنا بان وردي لن يغني بسبب الام في حنجرته اثر اعتداء تم قبل ايام من جهاز آمن نميري. بعدها توالت مقابلاتنا وكنت لا ازال طالبا بمدرسة بحري الثانوية الحكومية العليا واساهم مع اصدقاء بولًا في شتى النشاطات وكان لا فروق سنية بيني وبينهم مما اعطاني ثقة اكثر بالنفس واحساسا بالمساواة معهم. بعدها غادر علاء في بعثة للاتحاد السوفيتي ( سابقا)، ولحقت به بعد عدة اعوام والتقينا وناقشته وناقشني (وكنت قد جئت لمؤتمر الطلاب السودانين بمدينة لينينغراد) عن التخصص الذي افضل دراسته واخبرته عن رغبتي دراسة السينما بوصفها جماع التعبير التشكيلي الذي اهتممنا به معا وكان ان حضرت لموسكو بعد عام من دراسة اللغة بمدينة كيشنيوف القريبة من رومانيًا و قبل انها كانت جزءا منها قبل الحرب العالمية الثانية. عندما حضرا لموسكو لتقديم اختبارات القدرات لمعهد السينما قد اسكن مع علاء الدين بداخليات معهد الفنون الجميلة ونعيش حياة ثقافية واجتماعية عرفتني تدريجيا بموسكو ومجتمع الطلاب والطالبات السودانيين عبر اشتراكي كشاعر ايضا في مناسباتهم من اعياد وطنية وانشطة سياسية وغيرها. قلت ان علاء كان شخصية هادئه وساخرة وتجده يعرف الناس ويقرأهم بنحو نادرا ما تجده عند الاخرين، وكان بعقله كشاف خاص يراهم به دون بقية البشر. كان بالطبع رساما باهرا محبا لمجاله ومطورا لقدراته به، وكان كاتب مقال لا يشق له غبار وكان قاصا مجيدا للقص والسرد وان كان غيرر مكثر في انتاجه القصصى ولكنه يظهر ويتبدى لقارئه كصاحب نظرات خاصة وفريدة الزوايا. كنت لا اتعب من صحبة علاء وسخريته ونوادره العجيبة الغريبة حتى اذا ما اسرني ذات يوم في النصف الاول من الثمانينيات على ما اذكر بنيته للزواج من شلبية الصاوي صديقتنا و زميلتنا بالدراسة بموسكو، وكنا على واجهة اجازة سنوية ساعود فيها الى السودان وتعود كذلك شلبية ( شوشو ) . طلب منى ان اذهب لوالده ووالدته واخوه مختار لاخبارهم بنيته ورغبته والتقدم معهم لطلب يدها. نزلنا وشوشو من موسكو عن طريق القاهرة ومكثنا ليومين وغادرنا لتحقيق الهدف. كل شى اذكر انه سار على ما يرام وفوق المتوقع احيانا. حتى اذا ما جاء يوم عقد الزواج و مراسيمه بالموردة بحوش واسع كبير .وكان الأصدقاء المشتركين سباقين في تلبية المتطلبات بما فيها توفير الفنانين والعازفين ويا لها من مشاعر كانت يومها بالانتصار. لبست شوشو فستان الزفاف الابيض ورقصنا واهلها وصديقاتها وجيرانهم. ما هى الا ايام حتى عدنا وهو يستقبلنا فرحا. سعيدا كان وغير مصدق لما جرى بمطار شيرميتفا ٢. سلمته الامانة بفستان الزفاف، وتوالت الاحتفالات بعدها بمجتمع الطلاب والطالبات والمبعوثين والمبعوثات ومضت الأيام وانجب علاء وشوشو ابنهما البكر سامي وتوالت الزهرات سالي وهبة ومى والصاوى و وتحرك دولاب الحياة وتزوجت فكانا بقربي، وسافرنا، وعشنا سنينا بليبيا اذهب كل ما حانت الفرصة لي من بنغازي لزيارتهم وبولا بسبها. عدنا نتواصل و نزور بعضنا البعض ونتابع مراقبة العيال التي كبرت حتى اذا ما تزوجت ابنتهما واحتفل الجميع بذلك، وجاء دور زواج ابنتي فكانا بقربي. اليوم يذهب علاء ذهابا ابديا، واتحدث قبل قليل مع شوشو وسامي والصاوى ومى واجدهم في مركز الصدمة لوحدهم ولا صوت لبكاء اهل او حركة جيران. وجدتهم في مواجهة ليل بهيم ووحدة صادمة. يحاولون تصديق ما حدث من غياب مفاجئ وصادم ولكن….. يا لها من قسوة فعلا وغرابة فادحة. من كان يتصور – ومن بمقدوره ان يحتمل زمان يطحن كهذا و يجردنا بعنف وعنوة من اعز الاعزاء واجمل ما نملك احيانا من اصدقاء لم نحسن وداعهم ونستحى ان نقابلهم فيما بعد منزوعين من الاسباب الوجيهة المقنعة بعدم الوداع كما كان ينبغي – من كان يتخيل؟ كنت اراه بعيدا، ولكني اليوم بكيت اكثر مما بكيت في اي يوم اخر بحياتي و ما كنت ادري او ادرك انه سيحل هكذا مباغتا ولادغا دون انذار مبكر اونظرة شريرة عن بعد.