غادر الجلاوزة القساة عنبر الموت في استعلاء وصلف و هم ينظرون الينا شذرا من طرف خفى نظرات وعيد واحتقار.. تبادلنا النظرات مع بعضنا البعض دون ان نقول شيئا. فكانت لغة العيون أبلغ وأفصح من كل كلام. تحرك المتهمون يتدافعون بالمناكب والإقدام كأنهم يساقون إلى عرس عرائسه حسان.. وهم في طريقهم إلى قاعة المحكمة العسكرية بسلاح الموسيقى المجاور سيرا على الأقدام. يحيط بهم سور منيع من الجند والحراس في كامل عدتهم وعتادهم كأنهم على وشك خوض غمار معركة حامية فاصلة.
النفوس مشحونة بالغضب والصمود والتحدي والعقول تمور بالأفكار.. وتتعارك فيها الاحتمالات كافة.. سعدت أن أكون من بين هذه الكوكبة الفريدة من الرجال الشم الذين لم تنل كل المصاعب والمصائب من عزيمتهم واصرارهم شيئا وإن نالت الكثير من أجسادهم فأحالتهم إلى أشباح تسعى. وكنت أقرب إلى وصف المتنبئ. .
كفى بجسمي نحولا أنني امرؤ
لولا مخاطبتي إياك.. لم ترنى
جال في خاطري السجل الدامي لتلك المحاكم سيئة الذكر منذ أن غرس نظام الرئيس عبود بذرة الشجرة الملعونة وسقاها بدماء الشهداء الزكية.. حين أعدم مجموعة من الشهداء على رأسهم الأميرلاى على حامد والصاغ يعقوب كبيدة وآخرون عام 59 ثم سار النظام المايوي البغيض (نظام الرئيس السابق جعفر نميري) على ذات الدرب وزاد الحشف سوء كيل.. وتواصل سير قافلة الشهداء الذين قضوا دون محاكمات أو بمحاكمات صورية زائفة.
شهداء الجزيرة أبا الأبية.. وعلى رأسهم الإمام الشهيد الهادي المهدى ورفاقه الأوفياء.. وشهداء معركة مسجد ود نوباوي نهاية مارس عام70.. ثم شهداء وضحايا انقلابي 19 يوليو 71 و5 سبتمبر 75 حيث تم تنفيذ أحكام الإعدام بحق المتهمين ربما قبل اكتمال التحريات اللازمة. وربما نفذ الحكم بحق البعض دون ان تعقد المحكمة العسكرية أولى جلساتها.. وما المحاكمة إلا كالجس بعد الذبح. .
كان طيفا الشهيدين.. عباس برشم فرح والملازم اول عبدالرحمن شامبي.. صاحبا الصبا والشباب والدراسة يسيران معي الحجل بالرجل.. وهما في قمة السعادة والانشراح. كأنهما يأملان سرعة لحاقي بهما.. قطع تواصل احلام يقظتي.. صخب علا.. إذ دنونا من قاعة المحكمة.. قاعة صالة سلاح الموسيقى.. كانت اصلا قاعة للعزف والتطريب
تحولت إلى قاعة للارعاب والترهيب! لقد رأينا قفص الاتهام الذي كنا نسمع به رأى العين.. لقد انقطع الشك باليقين.. لقد بدأنا العد التنازلي نحو مصير غامض مجهول. .
تم اجلاسنا في القاعة الفسيحة.. وجلست هيئة المحكمة على صدرها.. رئيس المحكمة العقيد اركان حرب عمر أحمد إبراهيم وسط هيئة الاتهام. . برئاسة المستشار يس وهيئة الدفاع المكونة من صديقي المتهمين وهما ضابطان اختارتهما الحكومة لمساعدة المتهمين. إذ لا يسمح بظهور المحامين أمام المحاكم العسكرية الميدانية.. وكان صديقانا.. المقدم مهندس احمد الشيخ. . والنقيب شرطة عبدالله عوض السيد قد بذلا غاية جهدهما لإنقاذ رقابنا من حبل المشنقة.. لقد اديا المهمة بإخلاص وشجاعة مما جلب عليهما غضب الحكومة.. وبالطبع نالا اعجابنا واحترامنا.
ساد صمت عميق.. قطعه صوت رئيس المحكمة وهو يعلن بصوت جهوري.. بداية الجلسة الإجرائية.. وسط حراسة مشددة.. وكانت تزين واجهة المحكمة الآية الكريمة.. ان الله يأمركم أن تأدوا الأمانات إلى أهلها.. وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.. تبسمت ساخرا من هول المفارقة بين القول والفعل!
تلا رئيس المحكمة اسماء المتهمين الخمس والعشرين فردا فردا.. ولما تأكد بأنهم جميعا حضورا بين يدي عدالته.. بدأ في تلاوة التهم الموجهة إليهم.. وهي تنحصر في مواد من القانون الجنائي المادتين97 و98.. ومواد من قانون أمن الدولة.. خاصة المادة6 . المهم كل التهم الموجهة عقوبتها القصوى الإعدام.. أقر جميع المتهمين بأنهم غير مذنبين.. ردا على سؤال المحكمة.. هل أنت مذنب؟
قبل نهاية الجلسة الإجرائية.. سألنا رئيس المحكمة عن أحوالنا في المعتقل. وكان حالنا يغنيه عن السؤال. فقد كان حالنا البائس وملابسنا الرثة أبلغ رد على سؤاله.. أمر أن تحسن معاملتنا وان يسمح لذوينا والذين لم يرنا منهم أحد ولا يعلمون عنا شيئا.. أاموات فننعى أو أحياء فنرجا.. فاليوم الأول من رمضان.. الفاتح من سبتمبر 76 هو اليوم الستون منذ أن فارقناهم. سمح لبعضهم بالزيارة وحضور جلسات المحكمة.
وسمح بإدخال المستلزمات الخاصة والطعام.
رجعنا إلى العنبر بين خيبة الأمل والرجاء.. وبدأنا في تقييم المشهد الأول للمسرحية التي نحن ممثلوها وشهودها.. لقد نال منا الاعياء والصيام كل ماخذ.. وفوضنا أمرنا لله.. وتوكلنا عليه فهو نعم المولى ونعم النصير.. وإلى اللقاء في جلسة الغد إن شاء الله..
*الكاتب: سياسي قيادي وكاتب