جابر حسين
مقدمة لرؤية وجه الشعر فى الثورة السودانية(14)
– جابر حسين –
(التفاحة،هى التفاحة،وهى ليست التفاحة فى ذات الوقت)…
-أنجلز-*
هذا الشاعر الكبير،وهذا الشعر،الذى ظل وفيا لمساره فى الجدة والتحول نحو أفق عال من المعانى واللغة، ظلا،معا، يؤازران الثورة والتغيير،يخوضان معاركهما مع اللغة والمعانى فى أفق الدلالات إلى جانب الشعب والوطن، وظل الشعر، هنا، ملازما للفقراء والكادحين من أبناء وبنات السودان،بل أنه قد عانق،فى أمتداداته، الإنسانى فى الكون الفسيح.محمد طه القدال،كان،ولا يزال حتى يومنا هذا،فى مسار الثورة،الثورة التى فى حياة الشعب والوطن،وتلك التى فى القصيدة نفسها أيضا، هو،!ذن،حاملا قصيدته،ومدخلها،فى وجدان شعوب أهل السودان جميعهم،إشارات ورؤيات،فى الوعى وفى الحياة،يشتغل عليهم فى سعيه المثابر،بكامل ما يحوزه من موهبة وخلق،ليجعل فينا ذلك البذار الخصب الكثير.كنت،حوالى العام2018م،كتبت مقدمة عن قصيدة القدال،بالنظرمليا،فى عاميتها المبتكرة،ساعيا فى الوقت نفسه،للإقتراب من قصيدته الأحدث وقتذاك(طنين الشك واليقين).وفى ظنى،أنه لمن الضرورى جدا النظر إلى قصيدة القدال وتأملها ثم،من بعد،عليك بقراءة قصيدته،ذلك من شأنه أن يجعلك فى موضع(الفهم)الذى يكون فى جسد القصيدة نفسه،لا فى أرديتها العالقة. وكنت، شخصيا،ومنذ تعرفى على قصيدته،قد وجدته،منحازا،فى قصيدته وحياته،لصف الثورة والثوار،وظللت،لأجل الفهم الأفضل لقصيدته،أتأملها لغته المبتكرة فى عاميتها.كتبت وقتذاك،إذن،أقول:( في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي كان السودان ينوء تحت وطأة حذاء ديكتاتورية نميري السوداء.كان الظلام كثيفا والعسف والقهر والمسغبة في أعناق أهل السودان قاطبة،الهواء كان مالحا،والسماء تنذر بهول مرعب، والبلاد كلها علي شفير الهاوية.لكن الشعر كان حاضرا في مواجهة الطغيان،صارخا في برية البلاد كلها ويحدس إرهاصا بالثورة المقبلة.أخذ الفنون جميعها في خاصرته وظل يصدح بالأغاني والأناشيد. محجوب شريف يطلقها قصائده من داخل السجن فتنطلق في سماء البلاد نداءات وشعارات وأناشيد فتغدوا في ملامح الشعب رؤيات وشموعا تشعل الضوء في نفق الديكتاتورية وتكشف عنها سوءاتها للملأ ثم تبشر بالغد الآتي. في تلك الحقبة السوداء من تاريخ شعبنا ونضالاته طلعت أجمل الأشعار والأغاني والأناشيد، نهض المسرح عفيا يقدم عروضا شعبية عالية القيمة والإبداع علي امتداد شارع النيل،وأنضم التشكيل فقدم أنضج وأروع اللوحات زينت جسد الوطن المعافي.نهض الشعر في معية الفنون جميعها،يصافح، ليل نهار،نضال الشعب وتوقه للحرية والإنعتاق والديمقراطية، لكأن المبدعون كانوا يرون رؤية فيكتور هيجو و… يتمثلونها في إبداعاتهم وهم يخوضون في بلبال الثورة التي يرهصونها في الفنون:(لا ينتقص من قيمة الجمال أن يخدم الحرية وأن يعمل علي تحسين أوضاع الجموع البشرية. أن الشعب المتحرر ليس قافية رديئة. والجدوي الوطنية أو الثورية لا تنتزع شيئا من الشعر)،بل تزيده ألقا ونضارة.في تلك الفترة نفسها تشكل الهرم العظيم للشعر في عامياتنا الفصيحة.كان محجوب شريف في أعلي الهرم، الخفقان في قلب الوطن،ثم من بين جماهير شعبنا كان الطلوع البهي الجسور لقاعدة الهرم في نهوضها الكبير، كانا معا، ينهضون بشعبنا صوب القمة في الأعالي:حميد والقدال.
الشعر في ملامح الوطن:
من بين الركام القمئ للديكتاتورية طلعت أجمل الورود،بعطر الثورة تصافح سواعد وقلوب الشعب،طلعت–يومذاك–الجسارة في قصيدة القدال،يعلن في الملأ موقفا ورؤيا،لكأنه كان يسجل موقعا للشعر ولقصيدته فيسير علي نهجها حتي يوم الناس هذا:
(أبيت الكلام المغتغت
وفاضي…
و…خمج!
أشوف العساكر تباري الكباري
وتفتش قلوب الجهال الشلوخهم هوية
و…أغني الزيوت والكنانة،
كضب!
أقول البنات المفتح صدورهن
يقالدن رشاشك
ويخلن حبيبهن…
كضب!)… تلك كانت وجهته،ثم،كان عليه أن يكون فيها،تلك اللحظة الحاسمة من لحظات قوله الشعري،فالبدايات،هي التي تحدد مسار وتطور الشعر من بعد.عليه أن يكون فيها،بجانب شعبه وقضاياه في التحرر والتقدم،حتي لو لم تتح له غير تلك اللحظة الواحدة من الأمل فلا مندوحة من أن يخوض غمارها،حتي لو فقدها،فلن يأسوا عليها لأن هناك آخرين سيسكبونها في نبع الثورة السيال، كل الآخرين في شعبنا العظيم.كم تعرض القدال للعنت والقسوة والملاحقة من سلطات الديكتاتوريات حتي الآن،لكنه أبدا لم يفارق نهج شعره ووجه قصيدته.ظلت أشواق شعبه وآماله بعضا حيا في وعيه وفي قصيدته. فقد إبتدع لقصيدته وجها هو وجهها بالذات،في صورها وفي معانيها و في دلالاتها في شسوع إمتداداتها إلي فوق،حيث رحاب القصيدة في أعلي أعاليها.جعل لها لغتها وملامحها،وظلت اللغة عنده ميدانا لنسج البراعة والجدة والإبتكار،نعم هي،في عمومها، تعد لغة أهل الوسط،لكنها تمسك بالكلمات من أعناقها لتعيدها في سيرورة الإنتقاء الحصيف فتغدو في المعاني المبتكرة لكأنها قد نسجت فقط لتكون في جسد القصيدة،وفيها ما يفهم لغير أهل الوسط عبر صوتها واصداء وقعها في نفس قارئها أو المستمع إليها. قلت المستمع، نعم، لأقول أن مأثرة القدال الكبري تكمن في طريقة إلقاء القصيدة،يطلع منه، من دواخله كلها صوت القصيدة،أظنه لا يعيش تلك اللحظة إلا مع قصيدته، ولا يري في الناس أمامه إلاها وحدها! تكاد تري الآخر لديه هو نفسه،ذات الشاعر نفسها،تنطلق حرة في مسار رؤاها معلنة، للبصر والبصيرة، تخوما عاليات تتيح له–كل مرة–بلوغ تأليف المعني ونسج أردية القصيدة التي، لا مندوحة،هي رؤياه نفسها أيضا،وتجعله في مؤامة لغتها هي بالذات،فيصف تهيئاتها التي هي بعضا كثيرا منه.أحيانا (تنشق) المخيلة عليه فتري في القصيدة إنتقالات وقفزات رشيقة في وجوها شتي! يكتب قصيدته بشغف حقيقي، راسما،بعاميته المنتقاة الآخر الناهض في مواجهته! ولكن، ما هو الآخر عنده؟واقعه المعيش أم ملهمه الشعري؟ أم درايته الشعرية،أم هو ما يلتصق منهما في ذاكرته فيبدأ يتشكل(الشك) لديه و…(اليقين)؟ وما هي ملامحها، وكيف تبدو إذ تكون بعضا حيا في جسد القصيدة؟القدال صاحب الدراية والفطنة والدهشة،تراه يجمع حتي الكواكب،حتي ذرات الحياة الصغيرة،فيصوغها لوحات ملونة في قصيدته.يلم شظايا الكلمات، المهملة منها والغافية،فيصنع منها متراسا صلبا من خلل كينونته الشعرية التي احتضنت الخيال منه وخرجت عنه في ذات الوقت!يفعل ذلك وهو يبحر،في ذات الوقت، بمهارة البحار،في فنيات قصيدته،في اللغة والصورة والمعني، أيا ما كان موضوعها،ممسكا بلحظتها الشعرية حد يصل بها إلي الإشباع المزهر في وجوه تطلعاته للبزوغ وللتحليق في فضاءات الممكنات في راهنه،راهن الشعب والوطن في وجهة تجلياتهما.فيبقي الآخر هو نفسه الشاعر،الوجه الحقيقي للشعرية في حياته،حياته هو وحياة الآخر الذي هو شعبه ووطنه و…في رؤاه.لقد تعرفنا عليه–رويدا رويدا–من خلال قصيدته،التي هي من عامية لغات أهل السودان، تماما كما تعرفنا علي عاميات آخري لدي محجوب شريف وحميد،عرفناه،إذن،من خلال قصيدته،من خلال ما أراد هو لنا أن نكون فيه،أكيد،هذا مما يجوز للشاعر ولايجوز لنا!)… إذن،تلك هى وجهته،وتلك كانت قصيدته. مرابيع القدال،نداءات للثورة والثوار: العام2013م، قبيل إنتفاضات سبتمبرذلك العام نفسه،حيث إستشهد فى تلك الهبات أكثر من 200 من الثوار،ولا نزال حتى اليوم،نطالب بمحاسبة ومحاكمة القتلة.فى ذلك الوقت،شرع النظام يشدد من قبضته القمعية وينال،بأدوات الأمن الدموية، من أبناء وبنات السودان، وهم فى الميادين يعلنون الثورة ضد الكيزان وينادون بالحرية والديمقراطية والسلام،فى ذلك الوقت،إبتكر القدال(المرابيع)،التى هى أيضا،لغة فى الشعر وفى الثورة،خفيفة ورشيقة،تشتمل على أربع مقاطع،بلغة قصيدته نفسها تقريبا،لكنها،مشحونة بالكشف والجهر لسوءات وجرائم الديكتاتورية، تسرى فى وعى الناس وتحرضهم على الثورة. داومت صحيفة (الراكوبة) الأكترونية على نشرها تحت عنوان(مرابيع القدال/مرباع اليوم)،وأشتغل الفنان عصام عبدالله على تصميم لوحاتها،لوحة لكل مرباع.المرابيع،أعدها تجربة جديدة مبتكرة،طلعت من رحم عنفوان الثورة،برسم الثورة والثوار.نورد بعضها لنرى كيف رافق،الشعر والشاعر،نداءات الثورة والثوار فى الحراك العظيم لشعوب أهل السودان صوب الثورة والتغيير:
1:*
(ناس تِـتْـشَابا لى حَـرْق البَخَـورْ
ولى لـحْـس الجِـزم ساوَّالا دُورْ
ياخي القَـال كَـفَايْ مَـلْيَ القُبورْ
تاااني تَـريِّسُـوه يَـمْلانا جُـورْ؟)…
2:*
(ديك العده ينقز بالشتم والطاره
مادام البلد كورة شراب ووزارة
خرماج الدفاع ناظر بدون نضاره
وين ما يوزروه يطفح خراب وعوارة)…
3:*
حول تصريح وزير المالية كتب الأستاذ الشاعر محمد طه القدال:
قال وزير المالية أن المصروفات زادت بنسبة 106% نتيجة للصرف على الدفاع. وزيادة الاجور سلفية على المرتب.
نفير القدال..مرباع اليوم:
(كان المال مَـكَـنْـتـَر في السنين الغابرة للجــيمين
قام ارتاح جنوبنا الغالي من بيع العَــشم بالــدين
لمُّوا عليها لَغــَّافِـين على ابْساطور على ابسكِّين
وفي غضب الله ياخزنتنا جيمنا التاني بى جيبين)…
هكذا،يمكننا أن نقول،بعد أن رأينا،وجه الشعر الذى فى الثورة،فى قصيدة القدال،أن قصيدته ظلت،منذ ميلادها الأول،الأول الأول،وحتى ثورة ديسمبر2018م،وحتى وقت هذه الكتابة، ظلت فى توجهها صوب الثورة والثوار/ت،قصيدة،بدأت سيرها على نسق الحداثة والجدة والإبتكار،لكنها،وهى التى اختارت أن تكون فى صف الجماهير وقضايا الوطن، فى الحرية والسلام والعدالة،شرعت،لتكون فى الميدان،إشارة وراية،تتمظهر فى(تحولات)إبداعية على غير نسقها التى هى فى دربه،مثلما رأينا وجهها فى(المرابيع). القدال، وهو على أحواله تلك،فى نبع الثورة السيال،أبدا لم تكف لحظة قصيدته،عن الصراخ والغضب فى وجه الدكتاتورية وعسفها،تصفع،بأيدى الشعر القادرة،وجه الجلاد،وتحرض على النيل منه وهزيمته.فى الوقت الذى كانت أنظمة القمع والدم،ترتعش رعبا ومهانة،والدكتاتور يترنح،ويتصور أنه يرقص فى وجه الثورة التى تناوشه وتقسره على رؤية هزيمته الماحقة،تحيطه وتكاد تسقطه إلى الحضيض القمئ،كانت قصيدة القدال،توالى صفعاتها وطعانها فى جسده الحى،وما إكترثت لأية مآل يأتيها،فالشعر له نصال وحراب ولهيب: (يا القايدك عماك .. باللهي شوفو عماك بسوقك وين؟ خاتياك الدروب الباهيي ودوبها خطاك تودي الطين. الصبيان يقودوا الهَبَّه والبنوت مثالهن وين؟ حالف شفتهن.. واللهِ بالبنبان يردوا الدين حت شفعنا عرفوا السُبَّه دوس الكوز غناهم زين وجهجهوا للكجر جهجاهي ولبُّوا على البقول يامين حتى الماتولد قام لبى ثورة حقيقي مي تخمين ثورة بتقلع المتباهي وتلعن طغمة الفاسدين ثورة وهبه فوق الهَبَّه شأن وطنا عزيز وامين و يا القايدك عماك .. باللهي شوفو عماك بسوقك وين؟)…
ولتبيان قصيدته فى راهنها،وراهن الثورة ومآلاتها،نكتفى بإيراد قصيدته التى حيا بها ثوار/ت البرارى،نموذجا لما فى الثورة من زخم نضالى جسور،ولما فى القصيدة من رؤيا،ترافق الثورة فى مساراتها جميعها:
(بري وما أدراك ما بري المكين
تعرف عبيد حاج الامين؟
الناس بتعرف عزها.
وين ما بتتاوق يا الحزين
تلقاك معاني العزة في بري الوفا
انت المشيت بالتاتشر المشري
وكمين،
من دم ولادنا
ومن طريحات البنات
العزهن يسري وأمين
لا عند مهيرة وكل ميرم
وانت ماك خابر ولا بتدري
من وين بدت بري
أو انتهت بري
انت الجهل
هن معرفة
انت البلادة مع الغبا
هن العقل
هن كل ميادين المعاني المترفة
ياخ اختشي
هل هي ديّ المحرقة؟
يا ناس..
حميدتي كلامو صاح
هل في الدرايسة محل كماج؟
والا البراري المعركة
أمريكيا روسيا دنا العذاب؟
والا الكضب أصل الحقيقة وأسها؟
قالولنا نحنا الدين عدييل
نحنا المشيريع الحضاري البالفساد والمسرقة
وكان الشعار من ضمن كم الفبركة
اهو ديل… بنات بري التمام..
اهو ديل…
ولاد بري التمام)*…
هوامش:
*فى معنى(التغيير)،الذى يطال كل ما فى الحياة،حتى الشعر.
*كان النظام يتبجح بأنه قد أخرج للبلاد البترول،ودعم إنتاج السكر,
*إشارة إلى قصيدته:(طنين الشك واليقين).
*مجتزأ من كتابة لنا:(تأملات فى عاميات أهل السودان، القدال الآن يتأمل حال البلد)،نشرت فى(الحوار المتمدن)بالنت2017م.
*(مرابيع القدال)،نشرت بصحيفة(الراكوبة)الأكترونية،نوفمبر2013م.
*المرابيع(1/2/3)،المصدر السابق.
*من(مديح الظل العالى)،لدرويش.
- مجتزأ من قصيدة(كضب..العمى)،نشرت فى صفحة جريدة(اليوم التالى) على النت فى4/9/2019م، الصفحة باشراف محمد إسماعيل.
*(إلى أشاوس البرارى)،نشرت بصفحته بالفيسبوك21/3/2019م.
h.gabir@yahoo.com