كعادته وهدوئه الذي يميزه وعرفته به لأكثر من عقدين زمانين، مازال الاستاذ بابكر فيصل بابكر، وكما هو. يتناول في نقاشه معك لاي طرح، سياسي أو فكري بالدراية والرؤية الثاقبة، التي تشعرك منذ اللحظة الأولى أنه يعي ما يقول، وتسوقك إلى سياحات من الفكر والثقافة والسياسة. فالرجل على دراية ووعي شديدين، بما يجري في السودان والمحيط الإقليمي والدولي. تلك الدراية، جعلته على رأس هرم “التجمع الاتحادي” وريثا لحزب الحركة الاتحادية. التقته سودانايل في زيارته للولايات المتحدة الامريكية الحالية. وجلست معه لأكثر من ساعتين، تناولنا فيها الكثير من الشأن الداخلي. ابتداءا من السلام مع الحركات المسلحة، اتفاقية جوبا، وإعلان المبادئ، مرورا إلى أزمة سد النهضة. وكيف يرى الأستاذ فيصل، العلمانية. تناول اللقاء أيضا، تحديات الفترة الانتقالية الحالية والمستقبلية. ولم يغفل اللقاء الذي سينشر على عدة أجزاء، الأزمة الاتحادية ورويته للوحدة. واختتم اللقاء بالحديث عن الإسلام السياسي ومستقبله في السودان.
س- انتشرت في الفترة الأخيرة، ظاهرة ليست بالحميدة. ويمكن وصفها بالخطيرة جدا في المجتمع السوداني. وحقيقة الأمر، أصبحت مهدد أمني حقيقي للسلم الاجتماعي. وأحد التحديات التي تواجه الفترة الانتقالية. أقصد – القبلية والاثنية، وخطاب الكراهية المصاحب لها. كيف يرى الأستاذ بابكر فيصل هذا المهدد؟
أعتقد أن موضوع السلام الاجتماعي، الآن يشكل أحد أخطر المشاكل، إن لم يكن الأخطر على المجتمع والدولة السودانية الحالية. هذا الأمر لعبت فيه السياسة السودانية، وتحديدا النظام السابق دورا كبيرا.
كما هو معروف، وحتى العام 1920 ظل السودانيون مرتبطون بعاملين أساسيين. وهما الدين والقبيلة فقط! وحتى قيام الثورة المهدية، ومجيء الاستعمار ظل العاملين هما الشكل الرئيس في الارتباط السوداني والمجتمعي.
في العام 1920 ولأول مرة قام تنظيم سياسي، جمع أعضائه على الأساس المدني. وليس الانتماء الديني والقبلي. وهو تنظيم الاتحاد السوداني. والذي تطور فيما بعد إلى حركة اللواء الأبيض، وهي حركة اتحادية في الأصل. كانت تلك الحركة عبارة عن نموذج للسودان المنشود. وكان رئيسها، علي عبد اللطيف من قبيلة الدينكا. والتي كان في عضويتها أيضا الرباطابي والجعلي…والخ. تطور هذا الأمر، بعد ذلك فيما عرف بمؤتمر الخريجين. ومن بعدها ظهرت الأحزاب السياسية. دعني أذكر أنه وقبل ظهور تكوينات الأحزاب، كان هناك وجود الطائفة، أو الطوائف الدينية.
بصورة عامة، الأحزاب السياسية كانت تمثل قمة ذلك التطور الإجتماعي . لأن المنضم إليها، ينتمي إلى قبيلة، وينتمي إلى طائفة تحت مظلة الحزب. فالحزب كما ذكرت هو المرحلة الأرقى. أما الطائفة، فتشمل العديد من القبائل. وهي مرحلة أرقى من القبيلة. والقبيلة هي المرحلة المباشرة بعد الاسرة.
وبالتطور الاجتماعي الطبيعي، يعتبر الحزب “المجال الأسمى” في الوجود بالنسبة للمجتمع المدني. وهو الكيان الذي يحتضن الجميع، بغض النظر عن قبائلهم، طوائفهم وأسرهم. نحن الان – وبعد مرور مائة عام من قيام تنظيم الاتحاد السوداني نجد أنفسنا نتحدث عن موضوع القبيلة. حدثت ردة كبيرة جدا! لأن التطور الطبيعي للمجتمع من العام 1920 كان من المفترض أن يفضي لشيء مختلف في المجتمع السوداني. إلا أن الأنظمة الشمولية، التي حكمت السودان لأكثر من ستين عاما، حكمت واستندت إلى أشياء مختلفة. كان آخرها، وأخطرها ما استند عليه نظام الانقاذ. وهو النواحي القبلية! الحروب التي دعم فيها هذا النظام البائد، قبائل بناءا على الانتماء العرقي والعنصري. وهو من أخطر الأوتار. على نفس هذا المنوال، تم استصحاب لمطالبات فيها جزء من الحقيقة، حول التهميش في المجتمع السوداني. وأن الحركات التي خرجت ورفعت السلاح تعتقد أن هناك جهات معينة ومهيمنة في القرار السياسي وعلى السلطة والثروة منذ الاستقلال، وهذا الادعاء بالتأكيد فيه كثير من الحقائق.
هذا الأمر لا يمكن حله عبر التصعيد الجهوي والإثني. أعني عبر الاستهداف لمكونات قبلية، أو مناطقية أو جهوية معينة. هذا الإشكال يتطلب وعي وحكمة شديدين. ويتطلب عمل كبير جدا من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني. لابد من وجود للتنوع القبلي في جميع الأحزاب. مثلا، نحن في التجمع الاتحادي، كنا تاريخيا، وقمنا على إرث الحركة الاتحادية. وفي حقيقة تركيبتنا الحزبية، كنا نركز على وسط السودان، شماله وشرقه. مع وجود بعض الجيوب في غرب السودان. الان تداركنا هذا المشكل، ومنفتحين بشدة على إقليم دارفور، وأنشأنا الدور والمراكز في جميع مدن الإقليم. وليس هذا فقط، بل لدينا مسؤولين حزبيين على مستوي رفيع، لأننا نؤمن بأن هذا التنوع، لابد وأن يتم عكسه داخل جميع الأحزاب الممارسة للعمل السياسي السوداني، ومنظمات المجتمع المدني، والخدمة المدنية. والاتفاقيات التي تمت تسمح بمشاركة واسعة حقيقية لأبناء المناطق المهمشة في الحكم. هذه هي اطر العلاج. اذ لابد من مشاركة شاملة وعادلة بعيدا عن الأصوات المتطرفة، سوآءا من الهامش أو من الجهة الأخرى. واللذان – أي الطرفان – يدعوان للاستئصال، وتسليح القبائل وانشاء كيانات جهوية. وهو أمر في غاية الخطورة، ولابد من الابتعاد عنه. وتداركه، وإخماد صوت القبيلة، خصوصا في مناطق الشمال، لأنها قطعت شوط كبير. إلا أنه وفي الوقت الراهن، وجدنا أن هناك جهات والنظام البائد ليس ببعيد منها، بدأوا في احياء هذه الكيانات القبلية، والنظارات والاتحادات بهدف استخدامها ضد الحكومة المدنية. والشاهد في الأمر، أن هذا لن يكون سلاح موجه ضد النظام المدني الحاكم. بل ضد الدولة السودانية بجميع مكوناتها الاجتماعية. ووجود أي عبث في هذا الأمر، يشكل خطورة كبيرة جدا في المجتمع. لذلك موضوع السلم الاجتماعي، لابد من وضعه كأجندة عليا بالنسبة للحكومة وبالنسبة للمجتمع السوداني ككل بمختلف قطاعاته.
س- ماذا يحدث في الجنينة، وأهلنا في دارفور ظلموا. ويعانون فيها الأمرين
ما يحدث في الجنينة وفي دارفور، عبارة عن تداعيات سابقة ومعقدة، ظلت موجودة في المجتمع السوداني. واصولها ترجع إلى حقب في الماضي. وتجلياتها في الأصل تعود إلى الصراعات بين القبائل. وأحد أهم أسباب هذه الصراعات حول الأرض والموارد. وكما أسلفت كانت تلك الصراعات موجودة في حقب سابقة، إلا أنها كانت محدودة. وكان يسيطر عليها واحتوائها من قبل الإدارات الأهلية، والحكماء من زعماء القبائل. إلا أنه وبقيام الحرب في الإقليم وتحديدا في العام 2003 حدث تطور كبير في الأزمة الدار فورية. وأعزي ذلك للانتشار الواسع للسلاح، نتيجة تداعيات الحروب في تشاد وليبيا. والتي فاقمت من الأزمة، اضافة الى دور النظام البائد أو السابق في تأجيج واشعال نار الفتنة بين المكونات القبلية في الاقليم. قام النظام المخلوع، بتسليح جماعات مسلحة ضد أخري. ونتج عن ذلك قتل الأبرياء بالألوف. وفيما يخص أحداث الجنينة على وجه التحديد فإن أسبابها تعود لمحاولة النظام البائد التلاعب بالأعراف والمفاهيم الراسخة مثل الدار والحاكورة (الأرض) حيث بذل الوعود للقبائل التي ساندته في الحرب على حساب قبائل أخرى مما نتج عنه هذه الإحتكاكات التي تهدر فيها الأرواح والموارد. وأعتقد أن معالجة الازمة الدار فورية لا يمكن أن تتم فقط عبر ال (deployment) – انتشار لقوات الجيش الحكومية لفرض الأمن في الإقليم. لابد من تنفيذ اتفاقية جوبا، والتي شملت عودة النازحين إلى أماكنهم، بعد إسكات صوت البندقية. ولأن غريزة الانسان الطبيعية هي البقاء، وليس الموت والاقتتال. إذا توفرت التنمية، والأمن (مشفى وتعليم وفرص عمل) لن يقوم أحد بحمل السلاح بعد ذلك. لأن من حملوا البندقية هم في الأصل ضحايا لغياب التنمية، وهذا وضع مخل. نعم الأمر شاق وليس بالسهل، ويتطلب وقفة من الجميع، كحكومة مدنية ومنظمات مجتمع مدني ومشاركة جميع القوى المسلحة في الإقليم، وهذا ايضا يشمل قيادات أهلية ومراكز إيواء اللاجئين ومنظمات العمل المدني للعمل في برنامج تنموي شامل وعادل وكامل. ليس بالأمر السهل، ويحتاج مجهود ضخم، لكنه ليس مستحيل.
س- هناك اتهامات كثيرة أن اتفاقية جوبا تعتبر ناقصة، وأنها لم تحقق السلام المنشود
الوثيقة الدستورية، أكدت على أن السلام هو الأولوية القصوى بالنسبة للمرحلة الانتقالية. الآن، وبعد التوقيع على اتفاقية جوبا التي شملت جميع الحركات المسلحة، عدا حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور. وهو تقدم في عملية السلام وبنسبة 90%. معظم الحركات التي وقعت على اتفاقية السلام بجوبا، أصبحت الان مشاركة، وفعالة في الحكومة الانتقالية بجميع اقسامها، وفي حقب وزارية هامة جدا. وهي أيضا تقرر في مستقبل الوطن. نعم قد يكون الاتفاق ناقص، نتيجة للتحديات التي تواجه تطبيق الاتفاق على أرض الواقع كإعادة النازحين، واعمار الإقليم وتنميته. وهذا يحتاج لميزانيات ضخمة وهو تحدي حقيقي، في ظل الإمكانيات والظروف الاقتصادية التي تعاني منها الحكومة الانتقالية. بالرغم من هذا يعتبر توقيع الاتفاقية انجاز كبير خصوصا في المرحلة الثانية، التي تم فيها الاتفاق مع قائد الحركة الشعبية، عبد العزيز الحلو. والذي تم التوصل فيه “لإعلان المبادئ”. ونأمل أن تتم العلمية السلمية، بانضمام القائد عبد الواحد محمد نور، رئيس حركة تحرير السودان.
س- ماذا يريد القائد عبد الواحد محمد نور، رئيس حركة تحرير السودان للانضمام الى السلام
هذا السؤال في غاية الصعوبة. لأن جميع اللقاءات والمبادرات التي تمت معه، لم تؤدي الي شئ. هو تحدث عن مطالبته “بسلام من داخل السودان”. وهو طرح جيد وسليم، إلا أن عامل الوقت مهم لإتمام العملية السلمية الكاملة. أتمنى عودة القائد نور ومشاركته في العملية السلمية في وقت قريب.
س- الانفلاتات الأمنية من مظاهر السلب، وترويع المواطنين والقتل، أصبح هاجس يورق المواطن. ماهي مبررات الوضع الأمني المقلق؟
التفلتات الأمنية شئ مؤسف، وهذه المشكلة ذات شقين. الأول الشق الأمني الشرطي. الجميع يعلم أن هذه القوات، هي قوات موروثة من النظام السابق. ويوجد بها البعض الذي يثير القلاقل. وهي في حد نفسها – أي الشرطة – تعاني من مشاكل داخلية موضوعية من نقص في الإمكانيات، والتدريب والعتاد. هذا لا يعني عدم قيامها بواجبها الأمني، بالإضافة إلى القوات الأمنية الأخرى. أما الشق الثاني فهي المشكلة الاقتصادية، والتي تؤثر في ظهور مثل هذه التفلتات. عليه الحل لابد من أن يأخذ في الاعتبار هذه الجوانب.
س- وجود قوات عسكرية من الحركات المسلحة في المركز وتحديدا في الخرطوم، أثار استغراب واستهجان السكان. وعن نية تلك القوات. هل كان بالأحرى لموقعي اتفاقية السلام بجوبا، إيجاد مراكز ومعسكرات خارج العاصمة لاستيعابهم بها.
هذا الأمر أثار لغطا وجدلا كبيرين. وهو في الأصل قد تم تحت اشراف الجيش السوداني. وفعلا حدثت تساؤلات كثيرة عن وجودها نتيجة مظهرها في العاصمة، والتي صاحبها أيضا خطاب متشدد. في الأصل هذه القوات ليست بالكثيرة وغير مسلحة بأسلحة ثقيلة كما وصفها البعض. وأخيرا تم معالجة هذا الأمر بخروج هذه القوات إلى مناطق كالسليت وغيره. ولم تسبب هذه القوات اشكال كبير، إلا أن الوضع العام الهش الذي تمر به البلاد، زاد من تصويرها كمشكلة كبيرة. وكما ذكرت الأمر قد عولج.
س- مؤخرا نشرت مقالا بعنوان “فتوى مفخخة”- وهو عبارة عن رد لفتوى عبد الحي يوسف، التي أصدرها عند سؤاله حول حكم الشرع في “اتفاق إعلان المبادئ” بين البرهان وعبد العزيز الحلو. وفي ردك، تناولت جزء من نص الاتفاق وكتبت عما جاء في أحد أهم بنود الاعلان: “تأسيس دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية في السودان تضمن حرية الدين والممارسات الدينية والعبادة لكل الشعب السوداني، وذلك بفصل الهويات الثقافية والإثنية والدينية والجهوية عن الدولة، وألّا تفرض الدولة ديناً على أي شخص، ولا تتبنى ديناً رسمياً، وتكون الدولة غير منحازة فيما يخص الشؤون الدينية وشؤون المعتقد والضمير، كما تكفل الدولة وتحمي حرية الدين والممارسات الدينية، على أن تُضَّمن هذه المبادئ في الدستور”. أليس بين سطور هذا الاعلان، إقرارا بالعلمانية؟
الشيء الواضح من هذا الاتفاق، أن إعلان المبادئ، تحاشي ذكر علمانية- وهو أمر جيد ذلك لأن مفهوم “العلمانية” حدث حوله جدل كبير في الثلاثين عاما الماضية، حيث تم النظر إليها كمطابق للإلحاد. وهي بالتأكيد غير ذلك. الاتفاق ركز على شئ مهم وهو وقوف الدولة على مستوى واحد من جميع الأديان، وضمان كفالة حرية الأديان، والمعتقدات للجميع. وممارسة الشعائر الدينية لكل فرد وبدون مضايقات. هذا هو مفهوم الدولة المدنية الحديثة. بصورة عامة انحياز أي دولة لدين معين، هو ضد مفهوم ومبدأ الدولة المدنية الحديثة. والتي تقوم على أساس حقوق المواطنة، ومساواة الجميع أمام القانون من غير تحيز للدين أو المعتقد. وماحدث من تداعيات في هذا المفهوم لمصطلح العلمانية من كتابات وندوات وفتاوى هو خارج عن مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية. وهناك من يعتقد أن وجود أغلبية في دولة ما، هو المقياس لفرض معتقد الأغلبية. فلنأخذ الهند مثالا. وهي دولة كبيرة من ناحية عدد السكان والمعتقدات. والغالبية فيها من الهندوس. والسؤال هنا: هل طبقت الهند الشريعة الهندوسية لأنها أغلبية، وتناست حقوق الأقليات الأخرى كالمسلمة؟ بالعكس تماما، المسلمون في الهند يحتمون بالدولة الحديثة الديمقراطية والتي فصلت الدين عن الدولة. وكذلك هو الحال لجميع الأقليات المسلمة في اوروبا وامريكا. بالتالي، مفهوم المواطنة لا يخضع لمعايير الأكثرية والأقلية في الدولة المدنية. بل مساواة الجميع أمام القانون وحماية معتقداتهم الدينية. لهذا لم يتطرق الاتفاق الي كلمة أو مصطلح علمانية، حتى لا يتم الفهم الخاطئ. علي الجميع النظر بعقلانية، وايجابية لهذا الاتفاق. لأنه يتيح الفرصة في المراحل القادمة من تصحيح المفاهيم ذات الفهم المغلوط، واكمال عملية البناء على ما تم الاتفاق عليه.
س- دعنا نواصل في هذا الأمر، ما هو موقف التجمع الاتحادي من العلمانية، وكيف يرى الأستاذ بابكر فيصل العلمانية؟
نحن في التجمع الاتحادي مع مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية المحايدة تجاه الأديان. ولن ندخل في الجدل واللغط حول العلمانية. وكما ذكرت لك سابقا نتيجة الفهم الخاطئ له، لأنه نشأ وتتطور في بيئة مختلفة، وحدثت كثير من التغييرات فيه. إذن نحن مع وقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان. وفي إطار الدولة المدنية الديمقراطية. والتي أعتقد أنها تكفل بما طالبت به حركة عبد العزيز الحلو وجميع الحركات الأخرى. وهي دولة تقوم الحقوق والواجبات فيها على أساس المواطنة.
س- كتبت في الأسابيع الماضية سلسلة من المقالات، تناولت فيها موضوع اعتذار المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم السابق). وان كان الرد في معنون الى اركو مناوي الامين العام لحركة تحرير السودان، الا أنها أثارت استغراب البعض، وقرأنا بين السطور ما يشير الى امكانية عدم وجود ممانعة لديكم من إعطاء الفرصة، بعد الاعتذار والمحاسبة للمؤتمر الوطني السابق، من العودة والانخراط في العمل السياسي السوداني. ما هو رأيك بالتفصيل في هذا الموضوع الحساس.
هناك خطوات لابد أن تتم قبل ألحديث عن أي نوع من المصالحة. أولها: الاعتذار للشعب السوداني. والاعتذار بمفهومه الحقيقي، وهو ليس قيمة غير ذات جدوى، بل قيمة أساسية. لأن الاعتذار يستبطن معاني ومفاهيم الندم على الممارسة التي تمت خلال الثلاثين عاما الماضية. والعكس أي – عدم الاعتذار – يعني أنهم يقرون ويعترفون بممارساتهم في السابق. وهذا وضح جليا من خلال حديث الرئيس المخلوع أمام المحكمة حينما أقر بأنه ليس نادما على أي فعل قام به.
لابد من أن يتبع الاعتذار، خطوة ثانية: وهي إجراء مراجعات جذرية للأفكار التي تسببت في قيام الدولة الاستبدادية التي حكمت لثلاثين عام. والتي أنتجت نموذج فاشل وضعت البلاد فيما نعايشه اليوم، بذهاب ثلث الوطن (جنوب السودان). بالإضافة إلى الحروب الأهلية، وتهديد الكيان الأساسي للمجتمع السوداني. وما نشاهده اليوم من هشاشة في بنية المجتمع والذي أنتج أيضا فساد غير مسبوق في التاريخ السوداني. هذا الواقع ليس نتيجة للممارسة فقط، وإنما نتاج أفكار ومبادئ اتكأت عليها حركة الاخوان المسلمين في السودان. التي انجبت بدورها الممارسة التي عايشناها ونرى إفرازاتها اليوم. ثالثا: أن يتوقفوا عن ممارستهم في عرقلة الفترة الانتقالية، والتي ظهرت جليا في النواحي الاقتصادية من خلال مضاربتهم بالعملة وسيطرتهم على السلع اليومية التي يقتات منها المواطن البسيط. وأن يمتنعوا من خلق الأزمات المفتعلة والمظاهرات، بالإضافة الى الاعلام المضاد الكاذب الموجود في تركيا عبر بث الشائعات في وسائل التواصل الاجتماعي وغيره الكثير من الممارسات المضادة للمواطن والوطن والتي لا توحي بأنهم مدركين لمستوى وحجم الخطأ الذي مارسوه. أما في الجانب الآخر فالمطلوب من قوى الثورة والحكومة الانتقالية، أن تعمل على تفكيك النظام البائد، والعمل بمبدأ المحاسبة والمساءلة لجميع من أجرم في حق البلاد. واسترداد أموال وممتلكات الشعب السوداني. بعد هذا من الممكن التحدث عن موضوع التصالح. وعندها يصبحون مواطنين عاديين، ومن حقهم ممارستهم للعمل العام شريطة أن يكون ذلك في إطار الحكم المدني الديمقراطي. أما أي حديث اخر عن مصالحة من غير الخطوات السابقة الذكر والمنطقية والمنصفة لهذا الشعب، يعتبر حديث سابق لأوانه.
س – حميدتي – وقوات الدعم السريع، ما هو دورهم في الثورة؟ وهل لديه أطماع في حكم السودان؟
حقيقة الدور الذي قام به في الثورة من الانحياز إلى قوى الثورة والشارع في تلك الفترة، دور أساسي. والدليل على هذا أن الثوار كانوا يرفعون صوره عالية في القيادة. إلا أن وقوع حادثة فض الاعتصام، خلقت أزمة وفجوة بينه وبين الثوار، ومازالت تداعيات هذا الأمر مستمرة. وأعتقد أنه سيستمر إلى حين انجلاء الأمر في حادثة فض الاعتصام، وتحميل الاتهام الى الجهات المسئولة. وبحكم ما قام به في الثورة، أصبح وجوده الآن، كنائب لرئيس مجلس السيادة. لا أعلم عن تطلعاته لحكم السودان بعد انتهاء الفترة الانتقالية. لكن، بالضرورة إذا رأى اي شخص انه أهل لحكم السودان، لن يتم ذلك عن طريق البندقية والسلاح. وانما عن طريق مدني ديمقراطي، إذا رغب في ممارسة الحياة المدنية، وهذا بالتأكيد بعد انتهاء التحقيق في عملية حادثة فض الاعتصام. وليس هذا وحسب، بل لجميع ما حدث في السودان وعن طريق العدالة الاجتماعية. والتي تسمح للجميع باسترداد حقوقهم حتى تتعافى البلاد. وكما نصت اتفاقية جوبا، وإعلان المبادئ، بوجود جيش واحد قومي يشمل جميع الحركات المسلحة تحت مسمى وجيش سوداني واحد، بدلا من وجود أكثر من جيش. وبعد ذلك لكل حادث حديث، في الإطار المدني الديمقراطي.
س- العمل بازدواجية المعايير في ممارسة العمل السياسي، مقبول نوعا ما، لكن لماذا تذمر الشق العسكري الممثل في مجلس السيادة وأخص هنا بالتحديد الفريق الكباشي، حينما التقى رئيس الوزراء حمدوك عبد العزيز الحلو وأعلنوا عن “إعلان المبادئ” من العاصمة الاثيوبية أديس أبابا في سبتمبر من العام الماضي. حينها قال الكباشي: “حمدوك مشي براه وفصل الدين عن الدولة، وهو ما لا يتوائم مع المؤسسية”. وهو نفس الشئ الذي قام به الفريق البرهان مع الحلو.
أعتقد أن تعليق الفريق كباشى عكس حينها حاجز عدم الثقة الموجود بين شركاء الفترة الانتقالية بإعتبار أن خطوة السيد رئيس الوزراء كانت مفاجئة ولم تتم إحاطة الجميع بها، لكن الاتفاق الأخير بين البرهان والحلو وجد القبول لان الخطوة تمت بتوافق بين الجميع. والوفد الذي ذهب ووقع مع عبد العزيز الحلو، كان يشمل وزير العدل، مما يعني أن الحكومة التنفيذية كانت موجودة، ولا اعتقد، بل استبعد ألا يكون السيد رئيس الوزراء على غير علم مسبق بالخطوة. ومن الواضح أن الاتفاق وجد ترحيبا من قطاعات عريضة، مثلما وجد اعتراضا من قطاعات محسوبة على التيار الاسلامي. أنا أعتقد أن أي اتفاق يساعد في تقدم العملية السلمية، هو شيء مطلوب ومرحب به. بدلا من الدخول في الثنائيات التي قسمت ومزقت البلاد وفقدنا فيها ثلث الوطن في اتفاقية نيفاشا. وظل موضوع إسلامية الدولة مقابل تقرير المصير. وكما ذكر الحلو، انه في حالة عدم الاتفاق على فصل الدين عن الدولة، لابد من حق تقرير المصير. أؤكد أن أي ثمن يحافظ على وحدة السودان، هو ثمن بسيط.
في الجزء القادم من الحوار، يناقش الأستاذ فيصل، أزمة سد النهضة، وهل السودان بين مطرقة مصر، وسندان أثيوبيا. كما يواصل الحوار عن التحديات الحالية والمستقبلية التي تواجه الفترة الانتقالية.
أمريكا – كولورادو