بعد خروج نيلسون مانديلا من السجن، وجد زوجته ويني وشباب حزب المؤتمر الإفريقي في حالة ثورة وغليان، كانوا يقودون شعب جنوب افريقيا نحو الانتقام من البيض وقتلهم، وكان هذا ضد ما يدعو إليه، فوقف امامهم مانديلا تلك الوقفة المهيبة، وخاطب الشعب عبر وسائل الإعلام قائلا: يا شعب جنوب افريقيا، لقد اخطأت. واجه مانديلا الشعب في عنفوان ثورته وهيجانه وقال له لقد أخطأت، سمع شعب جنوب افريقيا ذو الغالبية السوداء قول زعيمه مانديلا وعمل به، فلم ينتقم من البيض، ولم يقتلهم، فحققت جنوب افريقيا مصالحة من بين أعظم المصالحات الوطنية في العالم. لا يدري أحد كيف كان سيكون حال جنوب افريقيا اليوم، لو لم يكن فيها زعيم اسمه نيلسون مانديلا، ولو لم يكن مانديلا قائدا شجاعا لدرجة الوقوف امام الأغلبية من شعبه ويقول لها لقد اخطأت.
الشعب السوداني يمر في الفترة الانتقالية الراهنة بتجربة معقدة، تنادي فيها أصوات متعددة بالانتقام هنا وهناك، فهناك من ينادي بالانتقام لأسباب سياسية، وهناك من ينادي بالانتقام لأسباب عرقية وعنصرية، آخر هذه الدعوات هي التسجيل المسرب للناشط دسيس مان، وهي كلها دعوات تخريبية ستقود البلاد إلى سكة اللا عودة، وتحتاج إلى قيادة شجاعة تقف أمام مطلقيها ومواجهتهم بأنهم مخطئيين، كما تحتاج إلى عمل مجتمعي لعزل أصحاب هذه الدعوات ومحاصرتهم مبكرا ومحو هذه الدعوات في مهدها.
نحن أمام واقع جديد، يحتاج أن ينظر إليه العقلاء بعين زرقاء اليمامة، ويتفرسوا فيه المستقبل، ويتحسبوا فيه للمألات التي قد تزلق الوطن إلى صومال أو سوريا اخرى، اذا عاد من جديد الاحتقان وصعدت شعارات الانتقام، التي لن تقود إلا الى عودة الرباطة القدامى أصحاب ألحس كوعك للظهور مجددا، فهم لا يصعدون إلا في الظروف القذرة، ظروف القتل والتدمير، بينما يهزمهم السلام وحكم القانون والعقل والموضوعية. فلينظر الجميع بعين التفكر، وليحسبوا الواقع بدقة، وليفاضلوا بين المكاسب الذاتية ومكاسب الوطن، فالأهداف التي حملتها شعارات الثورة وتجتهد في تطبيقها الحكومة الانتقالية، تقر الحريات والحقوق، وتحول الدولة من دولة حزب او فرد او جماعة او عرقية إلى دولة الجميع، دولة بلا تمييز، لا سيادة فيها بعد الله الا للشعب، فلا معنى بعد ذلك لأي دعوات انتقامية ولا حاجة لها مادام العدالة مبسوطة والحرية موفورة والناس سواسية أمام القانون.
sondy25@gmail.com