الأربعاء ٢١ أبريل ٢٠٢١
صحيفة الديموقراطي
أول أمس الإثنين الموافق 19 أبريل 2021 ، وبدعوة كريمة من منظمة (شركاء في خدمة التنمية -بارتنرز) ، تشرَّفنا وثُلة من الصحفيين والمُهتمين بحضور جلسة مؤانسة حول التوقيع على إتفاق المباديء بين الجبهة الثورية والحكومة الإنتقالية ، والتي كان من أبرز مؤشراتها الإقرار المبدئي بقبول مبدأ فصل الدين عن الدولة ، أو كما يحلو للبعض إقرار (علمانية الدولة) ، أدار منصة المؤانسة الصحفي القدير شوقي عبد العظيم فيما كان المتحدثين كلاً من محمد يوسف أحمد المصطفى رئيس الحركة الشعبية قطاع الشمال والبروفيسور عمَّار ميرغني قطب الحزب الإتحادي الأصل ، وإحتوت الندوة على سرد تحليلي للمشكلات الإجرائية التي واجهت المفاوضات قبيل التوقيع الأخير ، بالإضافة إلى إضاءات وافية حول وجهة نظر الجبهة الثورية في موضوع علاقة الدين بالدولة وما ينتج عبر هذه العلاقة من (مشكلات وحلول) تخُص السياسة والإدارة والإقتصاد والهوية الثقافية في دولة السودان الجديد.
على المستوى الشخصي أكَّد لي هذا اللقاء بأن الجبهة الثورية وغُرمائها ، لا ينطلقون في موضوع فصل الدين عن الدولة من نفس أرض المعركة ولا من ذات الأسباب التي أوجبت الصراع ، إذا أن النقاش الذي دار بموضوعية وإسهاب أكَّد أن التعدُّد في السودان الموحَّد لا تتوقَّف صراعاته عند حد الصراع الديني فقط ، فإن إستطعنا أن نحسم ما يمكن أن نسمية صراع العقائد بالعلمانية وفصل الدين عن الدولة ، وجب علينا أن نستعد للإجابة على السؤال الذي يطرح نفسه كالآتي (ماذا أعددنا لدولة السودان الجديد في حال تدشينها من أدوات تساعدها على (إدارة وتنظيم) الصراعات المجتمعية الأخرى وفي مقدمتها الصراعات المُتعلِّقة بالجهوية والأعراف والموروثات التقليدية ، فضلاً عن صراع الهوية الثقافية الجمعية والتي ستستخدمها الدولة بالضرورة كواجهة إقليمية ودولية ، إذا لا بد للدولة في نهاية الأمر من واجهة مركزية تُعبِّر عنها داخلياً وخارجياً ترتكز على لغة رسمية وتوجُّه جهوي إقليمي ودولي ، فضلاً عن ثقافة مُعتمدة ومُتبنَّاة لتُعبِّر بمنتوجاتها الفكرية والمجتمعية والإبداعية عن الضمير الجمعي للأمة السودانية.
وبالرغم من إيماني التام أن الدين مصدر أساسي للثقافة خصوصاً إذا كان مُكتسباً ومورَّثاً (أي غير مُعتنق حديثاً) ، إلا أن تأثيرهُ على مستوى صراعات التعدُّد السوداني هو الأقل (خطورةً) إذا نظرنا إلى الموضوع من ناحية (الكم الغالِب) للمنتمين للدين الإسلامي ، فهل تستهدف العلمانية ونظرية فصل الدين عن الدولة مُجرَّد محاربة (ديكتاتورية) الأغلبية ؟ ، أم أنها تكريس لفكرة تحويل عدم التوافق الآيدلوجي والعقائدي تدريجياً من مرحلة الصراع إلى (النزاع) ثم إلى (المنافسة) التي تعتمد قُدرة التأثير وإتساع مستوى إمكانيات (الهيمنة) الثقافية ، كُلٌ بحسب قُدراته وما يملك من مزايا ، مع بقاء الدولة بعيدة عن هذه التنافس الديني والثقافي والعُرفي والجهوي ، مُتخذةً من (الحياد المُطلق) منبراً لمعالجة المشكلات والقضايا التي تطرأ ، عبر دستور وقوانين ولوائح تنظيمية تقف على مسافةٍ واحدة من الجميع .
إن تحويل صراعات التعدُّد في السودان ، إلى (منافسات) لا تتدخل فيها الدولة ، سيُشكل خطورةً كُبرى حتى ولو إتفقنا على إبعاد الدين عن الدولة ، أو حسب تعبير الجبهة الثورية (تحرير) الدين من قبضة الدولة ، فصراع الهويات الثقافية والتقاليدية والعُرفية والجهوية ، هو أيضاَ شرارة قابلة للإشتعال إن لم يتم وضع تصوُّر مدروس ومُحكم ، قادر على أن (يُدير) هذا التنافُس عبر دستور وقوانين عادلة تُحدَّد من خلالها ساحات (السجال) الثقافي المتوقع ، وتُعتمد فيها موازنة المصلحة الوطنية العامة وعلاقتها بالتوجُّهات الإقليمية والدولية المتنازعة بين الهوية الإفريقانية والعروبية ، فالدولة في نهاية الأمر لابد لها من لغةٍ رسمية وتوجُّه جهوي إقليمي وثقافة (عامة) تُعبِّر عنها ، قصر التصوُّرات المُتصِلة بموضوع فصل الدين عن الدولة وفق إعتباره المصدر الوحيد لشرارة صراعات التعدُّد في السودان وعدم (التحوُّط) لخضم الصراعات التعدُّدية الأخرى فيه خطر كبير على وحدة السودان الجديد.