أخيراً بدا من بعيد الأوتوبيس كالسلحفاة التي أهلكها الهرم، وخلفه موكب مروع من الضوضاء والدخان، وصوته الذى سبقه إلينا، وحول الميدان الى ساحة قتال صاخب.
اندفع الجميع فى اتجاه الأوتوبيس، وكل يجرى في هرج ومرج، بعضهم يخرج من تحت كراسي المظلة شنط حديد مخصصة لحمل الأغراض، وبعضهم يحمل كومة من الكتب المتداعية، ولفافات كبيرة بها مفارش ووسادات، كانوا قد أحضروها من ديارهم للإقامة في الداخلية المدرسية طوال العام الدراسي، والأغراض تتطاير في كل اتجاه فوق سقف الأوتوبيس، وبعضهم يركب بطريقة عشوائية في أثناء تحركه.
عاود الأوتوبيس السير ببطء، وكان الركاب قد تمكنوا من التعلق على جنباته، وهدأت المحطة بعد رحيله، ولم تبق سوى فرحة بلا حول ولا قوة، تفترش منديلها الصغير، وعادت مرة أخرى تراقب عقارب الساعة، وهذه المرة ليست فى انتظار الأتوبيس.
إنها نتنظر ما هو أسمى لديها، وعلى الرصيف المقابل أرى إشارات وتحيات موجهة إليها. انفرجت لها أسارير فرحة، يبدو أنها سعيدة بتلك الإشارات العابرة إليها، تعبر عن الوصول، ووقفت فرحه ترد عليه بلهفة.
إنه حلمها الواعد (صالح)، شاب فى مثل سنها، نحيل تبدو على محياه الطيبة. شاب يداهمه الخجل بلا هوادة، إنه ودود، ولكنه يخشى الأضواء، والظهور في التجمعات. ليست لديه صداقات كثيرة. ونيسته الوحيدة هي فرحة عمره. جاء إليها وتخاطبا معاً، وهى تقاطعه معاتبة إياه لتأخره عن موعد الأوتوبيس، فاعتذر لها، وحمل عنها حقيبتها المدرسية، وتوجها سوياً إلى الاتجاه الآخر مترقبين عودة الأوتوبيس مره أخرى من القرى المجاورة. أخذهما حديث شائق كاد أن ينسيهما حرارة الشمس، وكأن السماء تمطر قيظا مستعراً، كلاهما يحدث الآخر، وتوحدت آمالهما وأحلامهما. تحدثت فرحه كثيراً إلى أن عاد إليهما الأوتوبيس، وتوقف أمامهما، كأنه يشفق عليهما من حرارة اللقاء والجو.
ركبا معا، وأنظار الراكبين تلتهم حياء فرحه الصغيرة. وقف أحد زملائها بابتسامه مهذبة داعياً إياها للجلوس، وانحنت له أدباً شاكرة إياه، ثم جلست على استحياء، وبقى صالح واقفاً بجوارها. وسار بهما الأوتوبيس يشق لوحة المزارع الخضراء في طريقه إلى القرى. وتبدل الجو الى مرح، ودوت الطبول من سقف الأوتوبيس، وتعالت نغمات الطرب النوبية الجميلة، فسكن لها الكون سمعاً، وتتباطأ سرعة الأوتوبيس شيئاً فشيئاً، ويقف السائق إلى جانب الطريق، ويتوقف معه الغناء، وتكاد قلوبهم تتوقف حزناً، وعلامات الدهشة والاستفسار تكسو الوجوه كأنها تتوسل بألا يعطل بهم الأوتوبيس كعادته، وقد كان ما كان. نزل السائق والمحصل يوزعان جرعات مسكنة على الراكبين لإخبارهم بأن الأوتوبيس سوف يتوقف دقائق قليلة للإصلاح، ثم سيعاود السير.
الجو لا زال شديد الحرارة، وتتصاعد درجاته، فأصبح الركاب لا يتحملون المكوث في الداخل، فخرجوا للتجول والترجل حول الأتوبيس، وبعضهم دخل مزارع القصب هرباً من الحرارة، والبعض لا زال يجلس مكانه، وعاد بعض الشباب بأعواد القصب لتقديمها الى أخواتهم الفتيات بعفوية، وتعاون جميل.
تمر لحظات وقد تحول المكان إلى مستودع لمصاصات القصب، ويخرج بعض الركاب أكواباً صغيرة كانت بحوزتهم، فيجلبون بها ماء الشرب من السبيل تحت أشجار الكافور المجاورة لمدخل القرية الصغيرة الهادئة، ليروي ظمأ الحاضرين، وترتفع أصوات الطلبة لمناداة الركوب، بعد أن انتهى السائق والمحصل من إصلاح العطل، وتحركت السلحفاة، وساروا مرة أخرى قاطعين الوقت، ونقترب من مدخل قريتنا، وارتفع الغناء من جديد، وتبدو مشارف القرية التي هلت علينا ورائحتها العطرة، وأشواق اللقاء تداعب خيالنا.
رحلة في الأعماق (1-3)