اليوم الخميس.. والنوابغ في الرياضيات في السودان ربما كانوا (ثلاثة وأربعة) على امتداد تاريخ التعليم في السودان الحديث.. وأرجو أن يخرج علينا من يدحض هذا الرقم وما فيه من مبالغة.. لكن أردنا بيان نبوغ أستاذ الأجيال (عوض ساتي- 1903-1972) صاحب جريدة الصبيان؛ ورأينا من جانب آخر استثارة النقاش حول سبب (تجليطنا) كسودانيين في الرياضيات وكراهيتنا الغالبة لعلم الحساب ووصفه بأنه (فرّاق الحبايب) وعدم الخجل من السقوط في مادته.. بل التباهي بذلك باعتبار ذلك انتصاراً للرومانسية..! ولا ندري ما هي العبرة في أن تسعين بالمائة من الشعب السوداني يريدون أن يكونوا شعراء وقصاصين وروائيين ومغنين.. وقد قادت كراهيتنا للرياضيات أن صحافتنا لا تحترم الأرقام وترى أن الخطأ فيها ليس عيباً.. ولذلك لا تعرف كم زرعنا حقيقة من الفدادين في مشروع الجزيرة والمناقل، وكم طناً نستورد من القمح من أجل الرغيف والباسطة؛ وكم تبلغ فاتورة الوقود سنوياً.. وتجد فروقات لا تقل عن 300 ألف فدان و50 ألف طن بين أرقام صحيفة وصحيفة في يوم واحد..!!
عوض ساتي من أبناء بخت الرضا ولو لم يفعل شيئاً غير إصداره مجلة الصبيان عام 1946 لكفاه؛ وهي مجلة تصفها المراجع بأنها الأولى من نوعها في العالمين العربي والإفريقي وربما في جزء واسع من العالم وكان تبويبها مدهشاً وموضوعاتها تسحر التلاميذ والكبار من حيث ربط المعارف بالبيئة السودانية مع رشاقة وخفة دم واهتمام كبير بالعلوم والمستجدات والابتكارات ومتابعة الظواهر الاجتماعية والعناية بالمعارف الجغرافية والتاريخية والتربوية وحاصلات البلاد ورموزها.. وهو الذي اختار شخصية (عمك تنقو) التي تجمع بين الطرافة والعبرة والتطفل الذي لا يتحسّب للتبعات ولا يتوخّى للعواقب وتعريض النفس للسخرية..! ولكن من كان معه في دار النشر؟ ..أنهم رجال من الوزن الثقيل: جمال محمد أحمد، وفخر الدين محمد، وبشير محمد سعيد، ومن الفنانين والرسامين إسماعيل ود الشيخ، وشرحبيل أحمد.. ولم يكتف الأستاذ ساتي بعد تأسيس دار النشر بمجلة الصبيان فأصدر مجلة النور ومجلة الكبار ومجلة الجيل الثقافية وسلسلة مفتاح المعرفة وباب المعرفة و(كل واحد يعلم واحد) لمحاربة الأمية.. ثم قدم عوض ساتي من الإذاعة ما كان يكتبه في المجلات عن العلوم بأسلوب مبسّط وعن طريق الأسئلة والأجوبة ومن بين هذه الموضوعات أصل الحياة وصناعة الزجاج من الرمال وطبيعة النار، والحياة في المريخ، وكيف تطير الطيور؟ وكيف تتم معرفة عمر الصخور؟ وماهي الميكروبات المفيدة، وهل ينتسب الوطواط إلى الطيور أم الحيوانات؟ وماهي قوانين الحركة والجاذبية والكهرباء؟ ولماذا لون الدم أحمر؟.. ولماذا تدفن النعامة رأسها في الرمال (مثل جماعة الإنقاذ)..؟!
عوض ساتي هو أول ناظر سوداني لمدرسة وادي سيدنا بعد الخواجة (لانج) وأول مدير للتعليم بعد (هيبرت) وأول سفير للسودان في بريطانيا.. وكان من مؤسسي مؤتمر الخريجين وعضو لجنته الستينية والتنفيذية وسكرتير عام المؤتمر بين 1942 و1945 ..وقبلها كان ساتي قد درس الرياضيات والفلك والفيزياء والأحياء في الجامعة الأمريكية ببيروت، وكان حجة في الأدب الانجليزي والفلسفة واللغات بما أهله لأن يسميه أقرانه (دائرة المعارف المتنقلة).. ويُروى أنه اقترح على عبد الله الطيب تقديم تفسير القرآن بلغة دارجية بسيطة عبر الإذاعة.. وكان الرجل عنواناً للدقة والترتيب واحترام الوقت ومحبة الخير لا ينفك من العمل النافع بين شروق كل شمس وغروبها، ولم يعرف التقاعد بعد التقاعد، وكان دأبه الإصلاح ومد يد العون ونشر المعرفة، بينما هناك نماذج الذي يمسحون عيونهم من النوم بالتفكير في كيف يؤذون البشر في غرة هذا اليوم..!!.