تعيش الصحافة السودانية واقعاً مريراً، خصوصاً لجهة الصناعة التي تشهد تراجعاً كبيراً خالف كل التوقعات والرهانات، التي كانت تشير إلى صمود الصحافة الورقية في البلاد سنوات عدة. لكن يبدو أن الأزمة الاقتصادية وجائحة كورونا، حررتا شهادة الوفاة في وقت مبكر، فلم تعد الصحف بالزخم ذاته من حيث المحتوى والانتشار، فضلاً عن تدني أوضاع الصحافيين، مما أجبر غالبيتهم على البحث عن مجالات أخرى، ناهيك عن ظهور ممارسات لا تليق بأخلاقيات المهنة من كثرة الشائعات والأخبار الكاذبة، وانتشار حال من الاستقطاب والانقسام في الولاءات.
واحتل السودان المرتبة 159 من مجمل 180 دولة في العالم، في مؤشر حرية الصحافة لعام 2020، وفقاً لتقويم منظمة “مراسلون بلا حدود” المستقلة المعنية بحريات الصحافة وحماية الصحافيين، متقدماً 16 مرتبة عن موقعه العام الماضي، إذ جاء هذا التحسن بعد عام من الإطاحة بنظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير، الذي جعل السودان إحدى أكثر دول العالم قمعاً لحرية الصحافة، فقد كانت أجهزة الأمن اللبنة الأساسية في آلية الرقابة التابعة لذلك النظام.
لكن على الرغم من زوال النظام السابق، فإن السياسة السالبة للحرية لم تتغير بتاتاً، إذ لا تزال معظم الصحف التي تغطي الأحداث السياسية تابعة للنظام القديم أو مقرّبة من مؤيديه.
ضعف المحتوى
وفي هذا السياق، يشير أستاذ العلاقات العامة والإعلام في الجامعات السودانية النور عبدالله جادين، إلى أن واقع الصحافة والإعلام في السودان بعد انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) يعكس كثيراً من الظواهر التي ترتبط دائماً بالمراحل الانتقالية بعد الثورات، خصوصاً في العالمين العربي والأفريقي والعالم الثالث بشكل عام. وتتمثل تلك الظواهر في زوال النظام الإعلامي السابق الذي كان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالحكومة التي أطاحت بها الثورة، والدليل على ذلك توقف كثير من الصحف والفضائيات والإذاعات الخاصة التي كان يموّلها وأحياناً يمتلكها جهاز الأمن السابق.
ولفت أنه على الرغم من اتساع دائرة الحرية الصحافية والإعلامية، ما زالت الرقابة تتحكم في جهازي الإذاعة والتلفزيون المملوكتين للحكومة، إذ تم إعفاء كثير من العاملين الذين كان لهم ولاء أو تعاطف مع النظام السابق، بل تمثلت الرقابة أحياناً في التدخل المباشر من السلطات لإيقاف بث بعض المواد الإعلامية.
وبينما نوه جادين إلى توسع مساحات الحرية الإعلامية بشكل كبير في وسائل التواصل الاجتماعي، وانتهاء عملية الملاحقات التي كانت تحدث للصحافيين والمدونين بسبب انتقاد الحكومة في نظام البشير، أشار إلى وجود عدد من العناصر السلبية من أبرزها ضعف الوضع الصحافي بسبب زوال مصادر التمويل التي كانت تتكفل بها الحكومة السابقة، وكذلك ضعف القوة الشرائية للمواطنين مع زيادة أسعار الصحف، والتضخم الكبير الذي تآكل معه مدخول الأفراد، فأصبح شراء الصحف ليس من أولوياتهم.
كما بيّن أن انتشار الإعلام البديل وصحافة المواطن والمدونات والصحافة الإلكترونية، وتوقف كثير من الصحف الورقية وتحوّلها إلى صحف إلكترونية، كلها أمور وسعت المشاركة الإعلامية للمواطن في القضايا السياسية، لكنها ربطت مستقبل الصحافة والإعلام في السودان بمدى الدعم والمساعدة التي يمكن أن تجدها الصحف ووسائل الإعلام الأخرى من قبل الحكومة، وذلك من ناحية توفير مداخيل العملية الصحافية والإعلامية من ورق ومطابع وحبر وأجهزة وكاميرات ومعدات. وبيّن جادين أن الحكومة الانتقالية لم تولِ حتى الآن اهتماماً كبيراً بالإعلام، ولم توفر له متطلباته لكي يساند برنامج الانتفاضة.
وفي ما يتعلق بدور نقابات واتحادات الصحافيين والإعلاميين، أوضح بأنها ما زالت مغيّبة ودورها محصور ومنقسمة على بعضها، في حين لم تبذل حكومة الانتفاضة أي جهد للم شمل الصحافيين والإعلاميين ليكونوا أداة مساندة لها في التغيير نحو الديمقراطية، وتحقيق شعارات الانتفاضة في الحرية والسلام والعدالة.
عداء وتحريض
ويعتقد أستاذ العلاقات العامة والإعلام، أن “غالبية الصحافيين لا زالوا غير متفاعلين مع حقيقة الانتفاضة لأسباب عدة، منها انقطاع مصالحهم التي كانت مع النظام السابق، فضلاً عن تدهور صناعتهم وفقدانهم كثيراً من عوامل الاستمرارية، كما أن شعورهم بالعداء تجاههم من قبل الحكومة وأحزاب الانتفاضة، جعل كثيرين منهم ينحازون إلى المؤسسة العسكرية ومحاولة توسيع دائرة العداء بين الجيش والحكومة المدنية الانتقالية لتحقيق مكاسب جديدة، لكن عندما فشلت خطتهم أظهروا العداء الواضح للحكومة باستخدام مواقع التواصل في تحريض الناس عليها، وإظهار عيوبها وإخفاقاتها الكثيرة التي لم تنجح في حلها، مثل أزمات الوقود والكهرباء ومتطلبات الناس والدواء وتردّي الخدمات ومشكلات كورونا، وتدني وعدم استقرار التعليم”.
وتابع أستاذ العلاقات العامة والإعلام، “نقطة الضعف الرئيسة في هذه الحكومة أنها لم تستطع أن تصنع إعلاماً بديلاً يدافع عنها وعن التحركات، فهناك صحافيون كثر يرغبون في التفاعل معها والدفاع عنها إذا حققت لهم رغباتهم ومصالحهم، لكن يبدو أن الحكومة لم تنتبه لهذه الصفة البراغماتية في الصحافيين والإعلاميين السودانيين، وتعاملت معهم باعتبارهم فلولاً وبقايا للنظام السابق، ولم تترك لهم فرصة للتعامل معها إيجابياً، وذلك بتصنيفهم الحاد ضد التظاهرات، وبضرب مصالحهم وعدم مساعدتهم بمصالح جديدة”.
وأوضح أن هنالك عدداً معتبراً من الصحافيين والإعلاميين منحازون للانتفاضة، لكن يلحظ أنهم وتماشياً مع خط الحكومة يرهقون أنفسهم في الهجوم اليومي على النظام الماضي، ويتركون المهمة الغائبة وهي إبراز الإيجابيات التي جاءت مع تلك الحكومة مثل تحسن العلاقات الخارجية وتطورها، ومستقبل الديمقراطية الإيجابي في السودان، وانتهاء قهر الناس وتعذيبهم.
رؤية أحادية
في المقابل، يرى رئيس تحرير إحدى الصحف الإلكترونية حسين حسن حسين، أن “المناخ الصحافي الآن في ظل الحكومة الانتقالية مناسب للحريات، وأن الأوضاع ستتجه نحو الأفضل عند الانتقال إلى الديمقراطية الكاملة بعد إجراء انتخابات عامة في نهاية الفترة الانتقالية”، منوهاً بأن الصحافة السودانية عانت كثيراً خلال فترة النظام السابق بسبب الرؤية الأحادية، حيث شرد العديد من الصحافيين، وهاجر قدر منهم إلى الخارج، كما حدث تجريف للصحافة بشكل كبير، فضلاً عن افتقاد دورها ورسالتها الرئيسة، لأن توجهها كان ينصب في خدمة النظام وأهدافه وتحقيق مصالحه.
لكن في ظل الوضع الحالي هناك حاجة إلى تقييم موضوعي لهذا الواقع من ناحية استمرار الصحف بالفكرة القديمة ذاتها، وهي صحافة الرأسمالية الصغيرة أو رأس المال المحدود، مما يجعل استمراريتها صعبة، فضلاً عن تقلب ملكية الصحيفة من مالك لآخر، مشدداً على أهمية أن تكون هناك صحافة مؤسسات، وأن تعي الأحزاب السودانية أهمية الصحافة بأن تقوم بتقويم وضع صحفها، بحيث تصبغ عليها الصبغة المهنية والاحترافية، وألا تنحصر رسالتها في الحزب فقط، بل يجب أن تشمل المجتمع ككل.
وأشار حسين إلى أهمية أن يفهم ويعي الجيل الحالي من الصحافيين الذين لم يعملوا في ظل النظم الديمقراطية ماذا تعني الحرية؟ فالصحافي يجب أن يكون أحرص الناس على الحرية وممارستها بالصورة الحقيقية، لذلك نجد في هذه الفترة الانتقالية نوعاً من التخبط في الأداء الصحافي. موضحاً أن تلك الحرية ترتبط دائماً بالمسؤولية والانضباط والرقابة الذاتية.
وأكد أن “المال أصبح يلعب دوراً كبيراً في توجيه الإعلام من خلال القوة المضادة للثورة”، فهناك صحف عدة تعمل تحت مظلة النظام السابق، في إطار مظلة الحرية المتسعة التي تجد التقدير من المجتمع الدولي، لافتاً إلى أنه تحت هذه المظلة يوجد من يمارس التخريب لمفهوم الصحافة والحرية والعمل ضد مصالح الوطن والمواطن من أجل فئة تمتلك المال، فضلاً عن وجود فئة من الصحافيين جرى المال في عروقها، إذ لا تريد أن تتخلى عن مصالحها، لذلك تدافع عنها بشراسة شديدة، إلى جانب قيامها بنشر الشائعات والهجوم الكاسح على الحكومة الانتقالية وعلى المرحلة برمتها، وكذلك محاولة تشويه بعض المؤسسات التي تواجه ما خرّبه وما أفسده النظام السابق مثل لجنة إزالة التمكين وتفكيك النظام السابق.
أقلام مأجورة
وبرأيه أن هناك تركيزاً من “أقلام مأجورة” تمارس هجوماً ممنهجاً على شخصيات لها حضورها في الذهنية السودانية، واستطاعت أن تكتسب التقدير والاحترام من خلال أدائها المميز في المراحل الماضية وتضحياتها، إضافة إلى اتباع أسلوب اغتيال الشخصية تجاه بعض الفاعلين في المجتمع.
وقال رئيس التحرير إنه في ما يختص بالمؤسسات الإعلامية التابعة للدولة، مثل التلفزيون والإذاعة، فإنها تحتاج إلى معالجات بالإبقاء على أهل المهنة والاحتراف الذين ينتمون لهذه الحقبة، كما أن هناك حاجة لنقابة شرعية تدافع عن المهنة ومصالح الصحافيين، وأن تهيّئ البيئة الصالحة للصحافي وتوفر له التدريب العالي والتأهيل، مما يمكنه من ترقية وتطوير أدائه بالشكل الذي يناسب رسالته ووضعه في المجتمع، حتى تعود الصحافة السودانية لرونقها وسابق عهدها.
وأضاف أن كليات الإعلام التي تقوم بتخريج الكوادر المهنية تحتاج إلى تقويم جديد في ظل تغير مفاهيم الصحافة، واتساع رقعة العمل الإعلامي إلكترونياً وورقياً وعبر الوسائط المختلفة، لذلك يجب أن تسعى هذه الكليات إلى تأهيل صحافيين يمتلكون المعرفة العلمية، والقدرة على اكتساب المعارف الجديدة، فضلاً عن الاندماج في الصحافة العالمية بمفهومها الكبير، وذلك بالتصاقها بالمجتمع وقضاياه بصورة مباشرة.
ولفت أن الصحافة ترتبط ارتباطاً كبيراً بالأوضاع السياسية في البلاد، فإذا تهيأت هذه الأوضاع، وكانت ماضية نحو أهدافها، فمن المؤكد سنرى مؤسسات صحافية تستطيع أن ترتقي لمستوى المرحلة.
حزمة تشريعات
من جهة ثانية، أشار الوكيل الأول في وزارة الثقافة والإعلام السودانية، الرشيد سعيد يعقوب، إلى أن الصحافة في بلاده تتمتع بحرية واسعة لم يشهدها تاريخ السودان، وهو أمر لاحظته التصنيفات العالمية التي تقوم عليها المؤسسات الدولية المعنية بالحريات الصحافية، وإن كان يجب أن يكون موقع السودان متقدماً كثيراً، لكن هناك أسباباً موضوعية، منها أن هناك حزمة من القوانين والتشريعات الإصلاحية ما زالت تحت الإعداد، إذ ما زالت تسري حتى الآن قوانين قديمة على الرغم من أنه لم يؤخذ بها، ما أثر ذلك على عملية التصنيف لأوضاع الصحافة في البلاد.
ولفت أن من سلبيات الصحافة أن عناصر النظام السابق ما زالت تسيطر على عدد كبير من الصحف والأجهزة الإعلامية، كما أن تدني الأوضاع الاقتصادية حالت دون ظهور صحف جديدة في الساحة الصحافية، لكنه أكد أن الحكومة بصدد إجازة تسهيلات للمؤسسات الصحافية من شأنها أن تؤدي لإيجاد إصدارات وتحسين أوضاع الصحف القائمة.
وبين يعقوب أن طول أمد النظام السابق الذي استمر 30 عاماً، كان خصماً على تطور الصحافة السودانية، حيث إنه نتيجة للممارسات القمعية والتضييق على الحريات، ظل الكادر المهني ضعيفاً جداً، وكذلك الحال بالنسبة للمحتوى، فكانت تلك الصحف هي لسان حال النظام، مشدداً على أهمية رفع مكانة ووضع الكوادر الصحافية خلال الفترة المقبلة من حيث التدريب والتأهيل، والأجور، والضمان الاجتماعي، والتأمين الصحي، ما يساهم في تقدم السودان خطوات للأمام أسوة بالدول المتقدمة عالمياً وعربياً.
وعلى ضوء تقرير مراسلون بلا حدود، أكد الرشيد سعيد يعقوب تقدم السودان في الحريات الصحافية 16 درجة بفضل الانتقال من النظام الشمولي إلى النظام المدني. فالتقرير والافادات الثلاثة جاءت متسقة في الرأي لأن هذا هو الواقع الذي عليه الصحافة السودانية، فلا يوجد رقيب عليها ولا مصادرات كما كان حدث في النظام السابق، فيما اتفق الجميع على تردي أوضاع الصحافة والصحفيين، وهذا ما أكده وكيل أول وزارة الثقافة والإعلام.
نقلا عن الانتبندنت العربية