كان ذلك المساءُ صافياً و معتدلاً، غابت شمسُ الخرطوم وئيدةً و أتاحت لنا بعضاً من شفق نراه عبر شارع الحرية و قد أضفي علي بيوت الحلة الجديدة شيئاً من الغموض الذى كان يزداد مع توغّلها فى طقوس مغيببها الأبدية . ولجتُ ذلك البيت برفقة خالي إبراهيم صالح الذي كان يُعرف عادةً بكنيته ، خالها ( و تنطق خالا ). لم يطرق خالا الباب بل صاح بصوت عال : يا أستاذ . ثم دفع الباب برفق و دعاني للدخول. حال دخولنا كان باستقبالنا الأستاذُ ، فى أناقة بادية و ابتسامة وضيئة ، و بينما كان مضيفُنا منشغلاً بالترحيب بنا كنت أجيل بصري في المكان الذي كان نظيفاً بدرجة مدهشة محاولاً فهم الرموز التى حفلت بها الملاءاتُ التي تم تطريزُها بإتقان . لم يفُت علي مضيفنا ما كنتٌ عليه من استغراق و قال : بالمناسبة يا ابوخليل الطقم ده من زمن العرس ، متذكر ؟ المدام قررت تفرشه لما قلت ليها إنك جايب معاك ود اختك. إنتبهت عندها إلي أن الملاءا ت و أكياس المخدات الأربعة ، و الفوط التى كانت علي الترابيز الصغيرة و تلك المنضدة الكبرى التى توسطت الموقع ، كانت تحملُ نفس الزخارف و أشكال العصافير التى تحلّقت حول زهرة كانت تتجاذبُها بمناقيرها الملونة بينما كانت أجنحتُها ترفرفُ فى أوضاع مجافية لقانون الجاذبية. جيئ بعصير الليمون و تلاه الشاىُ عاطراً ترنُّ أكوابُه علي صينية لامعة ( وهذا مما كان يرمز إليه صديقُنا خالدُ الذكر المسيح – أحمد مكى الفحيل – بالنغم المُحبّب ) . تأمل مضيفُنا ما اصطفَّ من ( بسكويت كرم ) علي طبق بيضاوى الشكل ، ثم قال : و الله يا ابوخليل المدام كانت دايرة تخبز ليكم لكن الظروف ما ساعدتها . إنهمكنا فى رشف الشاى وأنا في عجب من أمر هذا الإنسان الذي بدا ممتناً لزيارتنا له ، بينما حقيقة الأمر نقيض ذلك ، فيما يليني علي أقل تقدير كان الفنان رمضان حسن أنيقاً رغم بساطة مظهره و وديعاً بصورة تلفت الأنظار. كان الغرضُ من زيارتي أن أسأله عن حقيقة أمر أغنيته ( إفتتان ) تلك التى تُعرف عادةً بمطلعها الشهير ( الزهور صاحية و انت نايم ) وكان قد دار على الصحافة الفنية لغطٌ حول ما إذا كانت تلك الأغنية من كلمات عبدالرحمن الريح الذي سُجّلت باسمه فى الاذاعة مؤِلفاً و ملحناً ، أو من تأليف الشاعر الناصر قريب الله الذى يقول مناصروه إنه قام بتأليفها و لكنه لم يكن يرغب في ارتباط اسمه بالغناء ، إذ كان سليل أسرة من المتصوفة . كنت وقتها محرراً متعاوناً فى مجلة الاذاعة و التلفزيون و المسرح فكلفني رئيس تحريرها الأستاذ عبدالله جلّاب بتحرّى صحة الأمر سألتُ الخال ابراهيم صالح إن كان بمقدوره أن يرتب لي لقاءً مع صديقه الفنان رمضان حسن فوعدني بالسعى لتحقيق رغبتي بعد أن أوضحت له غرض الزيارة، و في يوم تال اصطحبني الخال إلي حيث يقيم الأستاذ رمضان حسن خلال تلك الزيارة أكّد لي رمضان إنه قد تلقي أغنية افتتان من الشاعرعبدالرحمن الريح (صُرة فى خيط ) ، تعبيراً عن اكتمالها شعراً و لحنا ًو أضاف ان الأغنية قد أعدها عبدالرحمن الريح ليؤديها الفنان ابراهيم ادريس لكنه سافر الي خارج العاصمة فكانت من نصيبه هو !! . و قال إنه ، و لفرط إعجابه بتلك الأغنية ، أطلق اسمها علي كريمته افتتان ، تلك الفتاة الوديعة التي جاءت برفقة شقيقها إلي معهد الموسيقي و المسرح بعد أعوام من يومنا ذاك ، لحضور ندوة أقيمت احتفاءً بحياة والدها و تقديراً لفنّه ، بعد أسابيع من وفاته. كانت تلك الندوةُ بمبادرة من الأستاذ الموسيقار جمعة جابرالذى أضاءها بوفرة معارفه و سحر حديثه، و ازدانت بحضور الفنان محجوب عثمان، رفيق رمضان حسن . و رمضان حسن الذى اعتُمد فناناً بالإذاعة خلال إضراب الفناين الشهير، مطلع الخمسينات، شأنه فى ذلك شأن الفنان محجوب عثمان ، إمتاز بصوت عالي النقاء و دقة فى الأداء. و لرمضان من الأغنيات ما ظل فى ذاكرة المستمعين إلي يومنا هذا، سواءً بصوته أو بصوت من رددوا أغنياته مثل (الأمان الأمان ) التي تغنى بها الفنان مصطفى سيداحمد، (أنا سلمتو قلبي) التي غناها الفنان محمد الأمين ، (يا حبّى الرزين) التي تغني بها الفنان عبدالمنعم الخالدي ، و( يا غرامى الأول ) و غيرها مما ردده السابقون و اللاحقون ، ذلك غيضٌ من فيض أبدع رمضان فى أدائه و أفلح . وقد غنّي رمضان لمظم شعراء الأغنية آنذاك بدءاً بعبدالرحمن الريح ومروراً بمحمد دسوقى و عتيق و عوض جبريل ، وتناول فى مسيرته شتى المواضيع ، العاطفي منها و الاجتماعي و الوطني . و كثيراً ما ذكرالأصدقاءُ من الجمهوريين أن الأستاذ محممود محمد طه قد كتب يوماً خاطرةً فى إحدى الصحف أثني فيها على الفنان رمضان حسن وعلي أغنيته ( الجمال و الحب في بلادى )، مأخوذاً بجمال اللحن و المحتوى و بالصوت الشجى. خلال زيارتي تلك ، تبيّنتُ فى رمضان حساسيته المفرطة و رقته و وضوحه ، فقد كانت إجاباتُه علي أسئلتي مهذبةً مختصرةً و محددة ، و كان مضيافاً و كريماً ظل يستبقينا للعشاء رغم اعتذارنا بموعد آخر. و عندما أحسّ برغبتي في أن أسجّل بعض أغنياته بالعود سارع قائلاً ، و الله يا أستاذ لو ما الحلة فيها عزاء كنت سمّعتك الغنا الما اتسجل فى الإذاعه لكن معليش . و أردف قائلاً يا ابو خليل لازم تجيب لينا الأستاذ مرة تانية عشان يسجّل ( يدعونى أستاذا !!! أنا !! هذا الأشعث الأغبر !! يا لتواضعه الجم). و عندما سألته مستنكراً كيف كان عليه أن يعمل فى السوق العربي بالخرطوم ليؤدى مهاماً صغرى لتجار البلح و هو الفنان الكبير، أشرقت عيناه بابتسامة ثم ضحك و هو يقول : ما عندك فكرة إني زمان اشتغلت جزار ومارست النجارة وكنت برضو فني مصنوعات جلدية فى ورشة عبدالرحمن الريح ؟ لكن كده قول لي ، مالو كلامك بقى لي زي كلام التاج مصطفى ؟؟ ويبدو أن التاج مصطفى الذي كان يسارياً منظماً قد ظلّ يسعى بأفكاره الثورية بين أصدقائه الفنانين . و قد ظللتُ لوقت طويل راغباً فى تقصّي الحقيقة التنظيمية للتاج مصطفي، إلى أن سألته يوما، و كنت أجرى معه حواراً حول شريط من الموسيقي أنجزه د. الفاتح الطاهر فى روسيا ، عالج فيه بعض الأغاني السودانيه و قدّمها فى شكل معزوفات للكمان بمصاحبة البيانو ، و كانت إحداها أغنية ً للتاج . قلت للتاج : يا أستاذ في كلام عنّك بيقول إنت شيوعي . فاجأه سؤالي و قال في استغراب : منو الكلّمك ؟ قلت : واحد من فرعكم . قال فى استياء : لازم تقول لى اسمه لأني حارفع عنه بلاغ . و كانت العبارة الأخيرة كافيةً بانسبة لي . يقال إن المطربين الذين جاء بهم الشعراء تعاوناً مع إدارة الإذاعة ليملأوا ما شغر فى البرنامج اليومي عندما أضرب الفنانون احتجاجا علي تدنّى مكافآتهم ، قد لاقوا عنتا بعد انجلاء الإضراب ، مما أعاق بقاءهم فى الساحة وصعّب من اندماجهم فى الوسط الفني ، و هو مما يُتوقع حدوثُه فى مواجهة من ساهموا فى( كسر الإضراب ) بلغة اليوم ، مع فارق فى طبيعة المهنة و الظرف التاريخي . كان لذلك أثره فى مسيرة رمضان حسن و محجوب عثمان و الخير عثمان و ابراهيم ادريس الذين لم يصعدواإلى القمة علي الرغم من تمّيز أصواتهم و ألحان أغانيهم ، إذ صاروا أهدافاً لعمالقة ذوي أذرع بالغة الطول و علاقات متشعبة متجذرة استُخدمت بكفاءة لعزلهم ، و العزلة فى وسط كهذا تعني الاضمحلال . ومن المحزن أن رمضاناً لم يجد من التقدير ما يستحق لمسيرته التي بدأها مغنياً بالرق فى ودمدني قبل انتقاله إلي الخرطوم بحثاً عن فرص أكثر اتساعاً . و لما كان للصدف دورها في حياة معظم الناس فقد التقى بمن قدمه إلي الشاعر الملحن عبدالرحمن الريح الذي أهداه أشهر اغنياته و أكثرها تألقاً : ( افتتان ) ، التى ما زالت أزهارُها صاحيةً ، فكانت منصة انطلاقه فى العاصمة و خارجها. وظلت أغاني رمضان حسن تُزين ساحة الغناء في وطننا رغم انسحابه و توقّفه عن التجديد قبل زمن من رحيله ، و ظل موقعهُ لامعاً في قلوب عشاق فنه . كنّا ذات مغيب فى طريق العودة من اجتماع حزبى عُقد بمنزل فى لاماب ناصر، و قرّرنا أن نمضي إلي (أبوحمامة) راجلين . و كان أن مررنا بجانب من مقابر الرميلة حيث أثارت انتباهي لوحةٌ معدنيةٌ صفراء كُتبت باللون الأسود كانت قد وُضعت شاهداً لقبر. اقتربتُ منها ففوجئتُ باسم الفنان رمضان حسن ، فتوقّفتُ ساهماً . لحقت بى الزميلة إنصاف ع. ( التى رحلت عن دنيانا باكراً ) وهي تستفسرُ عن علاقتي بالمتوفّي فأخبرتها، و لدهشتي ألقت إنصافُ بحقيبة يدها أرضاً و وضعت كفّيها علي رأسها و قد سالت دموعُها . شُقّ عليّ ما باغتها من حزن فلذتُ بالصمت و بعد هنيهة واصلنا المسير. و لما قطعنا شوطاً قالت لي : الأغنية البتقول ( أنا سلّمتو قلبى ) دى مغروسة جوة قلبى و ما حصل سمعتها ما بكيت . كثيراً ما تأملت قولتها تلك و أنا أستمع إلي غناء رمضان حسن و تساءلت ، ما الذي جعل لذلك الانسان الوديع النحيل كل هذا التأثير على عواطفنا و أمزجتنا ؟ يا لقوة الفن و يا لسحر الموسيقى و سطوة الغناء !!