نقف بتقدير، واحترام، ومحبة في وداع المناضلة الجسورة، الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم، رائدة الكفاح من أجل حقوق الانسان السوداني، والحرية والكرامة والعدالة، الثائرة بوعي وعقل وضمير إنساني، سوداني، وعالمي، في سبيل إنصاف المرأة، وانتزاع حقوقها المشروعة، في التعليم والمشاركة الاجتماعية والسياسية.
فقد السودان فاطمة، التي انتقلت إلى رحمة الله اليوم 12 أغسطس بلندن. إنها تستحق بجدارة أن يصطف أنباء وبنات السودان، من دون استثناء، ليودعوها، في مشهد جماعي، وملحمة وطنية، تعكس مدى تقدير شعبنا، لعطائها، ووفائها، وتضحياتها، ومواقفها النضالية. كانت منحازة لهموم الشعب، وتطلعاته، الإنسانية، الديمقراطية، المشروعة، خلال سنوات طويلة من العمل السياسي الشاق، في أصعب الظروف، وأشدها قسوة.
فاطمة، الرائدة، سودانياً وعربياً وإقليمياً ودولياً، وقفت بشموخ مواقف صلبة، وشجاعة في وجه الطغاة والجلادين، الذين حكموا السودان، بالحديد والنار، في فترات القمع والبطش، فدفعت ثمناً غالياً، ومريراً، بسبب مواقفها الجريئة الواضحة.
إنها امرأة نادرة المعدن، كسرت حواجز الزمان والمكان، حطمت أغلالاً، ووضعت بصماتها بقوة، على خريطة العمل الاجتماعي والسياسي في السودان، والمنطقة العربية والافريقية والعالم، في وقت كانت حواء العربية والافريقية مكبلة، مقهورة، مستكينة، خانعة، خاضعة، وغير قادرة على كسر أغلال المنع والحظر، والكبت، لكن فاطمة أطلت بوجهها السوداني، وعقلها الوطني، لتقول لا للديكتاتوريات، لا لتهميش النساء، نعم لتعليم حواء السودانية، نعم للحرية، ونعم أيضا لتقاليد الأسرة السودانية العريقة.
فاطمة أحمد إبراهيم عاشت الفترة الأخيرة من حياتها في لندن، التي احتضنتها انسانياً، وقدرت مكانتها، وخلال اقامتها ببريطانيا، ورغم ظروف المرض، لم تقطع وشائج تواصلها مع الناس، كانت – كما يقول من عاصروها عن قرب – بنت البلد الأصيلة، السيدة الفاضلة، وصاحبة النبض الانساني الجميل، تسأل عن الناس، صغارا وكبارا، وحتى من عملوا معها في بيتها.
في تاريخ فاطمة أحمد إبراهيم الكثير من المحطات المشرقة، التي تستحق أن يتأملها جيل اليوم، الباحث عن حلول ومعالجات لأزمة وطن يئن تحت وطأة القمع، ويبحث عن سبل الخلاص، والحرية، كما يبحث عن “القدوة” في النضال، والصبر على المكاره.
من أهم سمات فاطمة، و خصالها الإنسانية الطيبة، أنها كانت في السودان “صاحبة البيت المفتوح” أمام السودانيين القادمين من مناطق السودان البعيدة، الممتدة، كان الناس يأتون إليها من مواقع عدة، يشكون حالهم ومواجعهم، وأحزانهم، لأنهم شعروا، وأحسوا بفطرتهم أنها قريبة من نبضهم، تحدثهم حديث القلب إلى القلب، بمحبة ، بوضوح، وبلغة إنسانية، سودانية، بسيطة، ونابعة من القلب والعقل، ولهذا أحبوها، كما دخلت قلب حواء السودانية وقلوب البسطاء، ومن سمعوا لغة خاطبها، ومضامينه السياسية والاجتماعية، الواضحة، والشجاعة.
يقول الزميل الصحافي طارق الشيخ الذي نعزيه ونعزي الأسرة كلها برحيل فاطمة أن للفقيدة “الفضل الكبير في صدور قانون الأحوال الشخصية في السودان (في السبعينات في فترة حكم الرئيس السابق جعفر نميري) ، وأنها “استطاعت بنضالها أن تنتصر لحقوق المرأة السودانية في تاريخ قديم”.
نجاحها في المجتمع السوداني، بسبب شجاعتها، ووضوح رؤاها، وقدرتها على الصبر، واحتمال المتاعب، والأذى، وهي تقارع الظالمين، باختلاف أشكالهم وأنواعهم، قابله من جهة أخرى نجاح داخل الأسرة، ويقول طارق الشيخ وهو ابن الأسرة المناضلة، أن “كلمة فاطمة كانت راجحة أيضا داخل الأسرة”.
حدثنا عن اجتماع أسري عقد في السبعينات، في بيت الأسرة، التي تعرضت لضربات ونكبات عدة، من الجلادين، وتقرر في ضوء الاجتماع ألا تستمر أيام العزاء لفترة طويلة، عندما تفقد الأسرة عزيزاً أو عزيزة، حتى لا تكون أيام الأسرة أحزاناً مستمرة، وممتدة.
كانت أيام العزاء في السودان في ذلك التاريخ القديم تستمر لفترة طويلة، لكن فاطمة حسمت الموقف داخل الأسرة، وتم الاتفاق، كما يقول زميلنا طارق أن يستمر العزاء لثلاثة أيام، كما شددت على أهمية احترام التعاليم الدينية والتقاليد.
هذا يؤشر إلى أن نجاح أدوار السيدة المناضلة، رائدة حقوق المرأة، فاطمة أحمد إبراهيم في الوسط السياسي والاجتماعي في السودان، كان ينبع من أرضية نجاحها في رسم خريطة معاملات داخل الأسرة والبيت، كما نجحت بإرادتها في انتزاع حقها في التعليم، في تاريخ قديم، لم يكن عدد من الناس يشجع تعليم المرأة، بل كان هناك من يرفضه في شدة.
هذه بعض الجوانب المُضيًة في شخصية فاطمة، وخصوصاً أن السياسي الناجح، سواء كان رجلاً أو امرأة، لا يكتسب الصدقية الضرورية، وهو يرفع أعلام الدفاع عن الحرية، والعدالة، والتغيير الاجتماعي، الإيجابي، إذا لم يُطبًق ويُجسًد القيم، التي ينادي بها على أرض الواقع، داخل الأسرة، والبيت الصغير أولاً.
هناك الكثير من الإشراقات في حياة فاطمة أحمد إبراهيم، يعرفها سودانيون مهتمون بتاريخ بلدهم، كما يعرفها عرب وأفارقه، وآخرون في العالم، وبينها كما توضح سيرتها الذاتية، أنها كانت سياسية ناجحة، و”صحافية كتبت في البداية باسم مستعار عن قضايا الوطن والمرأة، ثم تولت رئاسة تحرير “صوت المرأة ” التي أصدرها الاتحاد النسائي في العام 1955، والأهم في هذا السياق أنها أول برلمانية سودانية منتخبة في العام 1965، أي أنها حظيت بثقة الشعب، لتمثله في برلمان منتخب.
فاطمة، التي تعرضت للملاحقة والسجن، في سنوات حكم الديكتاتورية المتعاقبة في السودان، تعرضت لتجربة أقسى بإعدام الرئيس السابق جعفر نميري زوجها النقابي الشهير الشفيع أحمد الشيخ في العام 1971.
تكاثرت عليها المحن، والمصائب، والتحديات، لكنها ظلت وفية لمبادئها، شجاعة في مواقفها، وعفيفة، هذه سمات مهمة من سمات أي سياسي ناجح أو سياسية ناجحة، خصوصاً أن النزاهة، والأمانة شرطان من شروط السياسي، الوطني، الذي يرفض أن تتلوث يده أو يدها بسرقة مال الشعب.
هكذا يدخل السياسي النزيه، ومن يتصدى لخوض غمار السياسة ساحات العمل العام، ويودعها باليد النظيفة، فيدخل سجلًات التاريخ، بحروف من نور، كما دخلتها الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم.
رحلت فاطمة، لكنها كانت، وستبقى رمزاً سودانياً مُشرقاً، وستظل حيًة في وجدان أنصار العدالة والمساواة، ومصدر إلهام لعشاق الحرية.
modalmakki@hotmail.com