منذ أن تفتحت عيناي، على حقائق الكون، وامتلأت مهجتي، بقبس يسير من أسرار الوجود، في الزمان والمكان، اللذان أدركت فيهما، كينونتي، في منطقة حصرية، بين (الريد والهوى)، وحين قنعت بأنني لا أملك اجنحة، حتى أحلق في الفضاء مع الزرازير، وحين نما لعلمي، بما لا مجال معه لريبة، بأنني سوداني، إبن سوداني ووليد سودانية، موغل في سودانيتي، منذ ان شق شبتاكا عصا الطاعة على شبكا، وحتى قول النميري، شكراً شعبي، وكذب كباشي، حتى لوكان صادقاً. وحتى لحظة أن علمت، في عميق أحلامي السريالية، أن عشة الجبلية شخصية اعتبارية سودانية، يستضيفها التلفاز، مثلها مثل بوب ديلان في زمانه، وهو يقود حركة التغيير في العالم الجديد، وود الحاوي، وهو يستوحي إيقاع (سال من شعرها الذهب)، من إيقاع عجلات القاطرة الفولاذية، وهي تمر عبر فراغات القضبان، أو هادية طلسم، تعلن فتحاً جديداً مع أختيها، في فضاء غناء المرأة السودانية، لتقف، (عشة نقصد)، علي تعريفنا مشكورة، بتفاصيل الفرق بين البنيوية والتفكيكية، ونشهد بأمهات عيوننا، (مرفنتها) المايكل جاكسونية، وننفي عن ذاكرتنا، لحظة فتحان اللون، والشعر الذي تدلى كعناقيد العنب، حتى قعدت فيه (بنبر)، فازداد اعجابي بالصندوق وصاحب الصندوق، وازددت بهاءً بسودانيتي.
أعود بآلة الزمن القهقرى ، للحظة حينما تفتقت مداركي، فظننت وانا يافع، غرير درير، بأن السيارات والقطارات والطائرات تصنع في السودان، فأعلمني الناس بان لا، نحنا يا ولدي شعرا (حقيبة)، المورس والهيلمان يافالح، والافنقر واللاندروڤر، وكوامر الكشة دي، الشالت الراجل النفطاوي، الجا يتعاقد مع بنايين في الحلفاية، قام انحرف، شالو في الكشة، اندهشنا نحن الاطفال، قلنا الراجل من أهل البيت، قالوا لا مواطن بس ! ناس التمنة كلهم اتعشو، اليوم داك، ولعب معاهم حريق، ورمى الجوكر بايظ، وما قصر، وعدهم بعقود عمل، شكروه ورجعوه محل ما قبضو، بتكسي سيهان، وبالليل جابو ليه بنقو مقبوض، اصلي وارد تندلتي، ملفوف (بي صمتو)، في ورق الموز.
ناخد نفس، ديل الإنقليز، والتويوتا الجريها نوتا والحلو موتا، جابانية، والفرفارة فرنسية، والشينة الفولغا دي، شغل بلشفيك، لكن في الأبيض، سبحان الله، مرغوبة، زي عجلة (الفيليبس)، ابو لستك دبل، في الحصاحيصا.
اما البنز وبالذات ليلى علوي، ديل الجرمان. الانقليز يا ابني، يا حليلك انت ما حضرتهم، الإنجليز ديل، جابو لينا السلفا والمياه النضيفة و عمدان النور، وجابو القطر والتلغراف، فقال كونفوشيوس، الكلام بالابر والخيوط، وتقلبوا مزارع الحلفاية بيوت، يا الكيزان الخ….
قلت لنفسي، وحدثت أبي، وقد تواضعت أحلامي، علي الأقل بنصنع الكبريت ابوتمساح، وأمواس الناسيت والإبرة. فضحك القوم وقالو، يا لك من طفل معباث، نحنا كان قدرنا نقد السلك الرهيف ده، كنا وصلنا القمر لهسي، يا بني، نحن علاجنا وصيدليتنا، فكي يبزغ ليك في وشك، عشان تطيب لو عيان، وعندنا العروق والعَمَل، و المغارز والمفارز، وماتذاكر الكيميا ولا الفيزيا، اربط الأوراد في حزتك، قسما عظما، اينشتاين جنبك، زيو زي ود العيلفون الشاعر، القائل حبيبي دفق الوسخ.
نحنا يا ابني، بنصنع طباقة، وعنقريب مخرتة، ودلاليك، وبروش وكناتيش، وعملنا بنقز ابو تلاتة، بنعزف بطريقة أفقية، عكس الطريقة الكوبية، الرأسية الصحيحة، البتمرق (السالسا) من جوه القنقوسة.
بنعمل زمبارة قصب، ونعزف بيها من أجل ابنائي، والوسيم القلبي رادو، وبنعمل ألفية اللالوب، لالوبة لالوبة، ننضمها، نجمة نجمة الليل نعدو، بنصنع ثورات، بتتسرق تاني يوم من نجاحها.
أفرح يا سادتي كلما رأيت جملة (فخر الصناعه السودانية)، حتي ولو كانت على سطح حلة كوارع، بطاريات عربات، مكيفات، كرسي أبنعوف السحري الفضائي، آخر مرة الاسم ده كان في مركز سلطة، قبل أربعطاشر قرن، خليفة راشد، واغتيل في الفتنة الكبرى..ماعلينا.
ايسكريم لولي، طقطقطق لبان بيطق، الكضمي وهو يستعرض الأغاني الخالدة، وبالليل رباطي. فول الحاجات ( المررو)، تحكنش فسمي (فوفو)، كريكاب وسعد واشراقة و(كرملا)، بسكويت كرم و (كوكو) ڤانيلا وشوكولاتة، هلال مريخ مجازاً، زيت عافية وفهد ونباتي عنتر، و حجارة الطواحين، العراوي وعمود الجلابية وجناح ام جكو، والمخالي، والسروال اب تكة والليمون ابو ماركة، وكل منتجات عابدين عوض
ولكنني وفي صبح هذا اليوم، أدركت بهجة الروح، التي كانت مستقرة في كسلا، حتى أتى بها الدعامة، مصفدة مكبلة…
ادركتني، حيث وجدتني، وقد دارت الايام واستدارت، أمام البقالة السودانية باسكايلاين، متسللاً، قبيل طلوع الشمس، وساعات قبل ان تفتح البقالة أبوابها للزبائن، غرضي من البكور ، أن أضع أمام الباب، رزمة من الإعلانات المصممة والمطبوعه، ليبدأ ابوعلي في توزيعها خلال هذا النهار، دعاية لعدس (شرنوبيل)، وفول السوهاجي، ومعمول العجوه والبسكويت، وعصير (الذبابة الاسبانية)، المحفز لرغبات النساء، ولانني سأكون منشغلا بأمور متشابهات، اذا احتدم نهار هذا اليوم. ثم تلفت حولي، فرأيت شاحنة، ليس بينها وبين باب المتجر، أكثر من بوصة، والسائق في داخلها، وقد اختلج جسده حين رآني، خلته ينتظر حتي يقوم بانزال البضاعة، حين يفتح المتجر ابوابه، ولعله حسبني عامل البقالة السودانية، مضيت اليه، وتعرفت على ملامحه الشرقافريقية، فهو شقيق من الصومال.
سلام
سلام
تهلل فقال
أنا والله منتظرك من امبارح بالليل!
فقلت له
للأسف فأنا لست صاحب المحل
أكاد أجزم، بأنني رايت عيونه تقدح شرراً
يعني كيف ما صاحب المحل؟
فأجبته، روق يا صديق، أولا إنت كنت تمشي بيتك تنوم، وترتاح، وتجي تفضي البضاعة على مهلك.
فقال لي، أنا مش هنا عشان افضي بضاعة
فقلت متحيراً: مهما كان الغرض الذي أتيت لشراءه، بإمكانك شراؤه من بقالات عربية وافرنجية، تفتح اربعة وعشرين ساعة، تعال نوريك… لم يمهلني ثانية لأكمل، فقال لي وهو مهتاج، وقد استرخت أجفانه، وتهدل كتفه:
الحاجة دي الا في البقالة السودانية
فقلت هزجاً يا سلام عليك، والله أنك عظيم، ومخلص في تشجيعك المنتجات السودانية، وتخيلت الرجل يحمل منتجاً مكتوب عليه، فخر الصناعة السودانية.
فقلت له بالله عليك ماهو الغرض السوداني، الذي من حبك له، بت ليلتك قائماً متهجداً..
نظرت إلى، وهو مسخسخ، وقد تقاصرت سوقه، وكادت بطنه تلامس الارض، وبآخر نفس زفر فقال
(خرمان لسعوووت).