لم يخطُر في خيالي ولو لِلَحظَةٍ أن يجَرجرني حَظِّي العاثر إلى أقاصي الدّنيا ماراً بمناطق لم تخطر على بَالي، ولو في أضغاثِ الأحلامِ والكوابيس.
كُنتُ سعيداً في طُفولتي في قريَتي عمارة (تقع جنوب وادي حلفا، وشمال عبري بالولاية الشمالية). كنت ألعبُ في حواريها وأحيائها متجَولاً ما بينَ كرسين ودِفِّي وشبون وأقِيدن وجَيق .. كانت دُنيَتي تبدأ من هِيارِن، وتنتهي في تَبج (قرية جنوب عمارة متاخمة لعبري) عندَ منزل عَمَّتي سعيدة وهبي – رحمها الله رحمةً واسعة – حتَّى عرفتُ الطريق إلى منزل أخي الأصغر طَلعت في قرية قِنس (شمال عمارة)، التي أصبحت فيما بعد ملاذاً آمناً لي عندما أختلف مع أحدٍ في البيت في عمارة .
كنتُ أقضي أغلب وقتي مطارداً العصافير والقَماري والقَيلدونة بنِبلَتي وشِراكي، ويتبعني ابن عَمِّي سِراج إبراهيم أينما أرُوح، كما الظِلّ الظَليل .. وأقضي بعض وقتي على جُروفِ النِيلِ في شواطئ أبابسن وكرسين خائضاً في مياهها، وباحثاً عن صيدٍ من السَمك، وعندما يدركني التَّعَب ألجأ إلى ظِلال النَّخِيل أتمدَّد تحتها أو أتَسَلَّق جزوع النخيل باحثاً عن أجوَدِ الرُطَب.
هكذا كَانتْ دُنيَتي وحُدودها التي لم أحلم في يومٍ أنَّها ستتمَدَد إلى مسافةٍ أبعَد. لم أحلَم مِثل غيري بالمَدنِ الكبيرة، مِثل: الخُرطوم وعطبرة وكوستي وبورتسودان، ناهيك عن دولٍ أُخري مثل مِصر ولبنان والعراق والكويت.
كُنتُ مُقتنعاً بِدُنيَتي الصغيرةِ المحدودة، سعيداً بِها، حتَّى تفاجأتُ بأنني سأضطَر إلى الانتقال إلى مدينةٍ أُخرى؛ لإكمال دراستي الثانوية، ولو أنَّني وجدتُ مدرسةً ثانوية في بُقعَتي الصغيرة لَما تردَّدتُ في اختيارها، راضياً مَرضِياً.
تَمَّ قُبولي في مدرسة كريمة الثانوية العُليا، التي كانت لي بمنزلة انتقالة لم أتهَيأ لها نفسياً، أو مادياً، ولكنني أُضطُررتُ إليها إضطِراراً.
وكان لزاماً عليَّ أن أفَصِّل قميصاً أفرنجياً لدى التَرزي سِرِّي عبد الله (سِرِّي سالمة) في سوق عبري، وان أبحث عن بنطلون (لأنني لستُ مستعِداً مادياً لتفصيله)، فكان أن لجأتُ إلى صديقي هاشم صالح علي ليعيرني بنطلونه الذي اشتراهُ من حلفا الجديدة قبل فَترةٍ.
ولم يخذلَني صديقي هاشم في الاستجابة لِطَلَبي، وكانَ هذا الخُروج الاضطراري من بُقعَتي المُحبَّبة هو بدايةُ طريقٍ لخروجٍ طويلٍ في مشوار المنافي البعيدة!
وعلى الرغم من أنَّني غادرتُ كريمة إلى كوستي مُروراً بالخرطوم، وكانت كوستي محطة مهمة في حياتي، وخَفَقَ فيها قَلبي أول مرَّة، ولِي فيها ذِكريات جميلة في مراحل الشباب الأُولى.
ولكن رَغمِ ذلك لم أتخيَّل أنَّ دربي سيكونُ طويلاً وعسيراً في منافٍ لم تخطُر على بالي. لم أحلم بالعراق أو الأُردن أو سورية أو أوروبا.. لكنَّني كما خرجتُ من قَريَتي في أول الأمر إلى كريمة مُضطَراً، خرجتُ إلى تلكَ المنافي مُضطراً كذلك.
لم أكُن أعلم أنَّ في أُوروبا لُغات أُخرى غير الإنجليزية والفرنسية والألمانية … حتَّى وأنا طالبٌ في الجامعة في بغداد كنتُ أعتقد ذلك، مع أنَّ دكتورة روسية جميلة كانت تدرِّسنا مادة التصميم الهندسي بلغةٍ إنجليزية طليقة جعلتني أشِكُّ في أنَّ لديها لُغةً أخرى اسمها اللُغة الروسية.
وبعدَ أن تخرَّجتُ في الجامعة , وكنتُ أعُدَّ اللَّحظات لكي أعود إلى بُقعتي الجميلة مَرتع الطُفولة والصِبا بعد أن أمرَّ بكوستي، حيثُ للقلبِ عِشقٌ مكتومٌ فيها( حُبٌ لم أتجرأ في البَوح به حتى لمحبوبتي ).. ولكن أجدُ نفسي في مطَبٍ لم أحسب لهُ حساب مِن قبل، فقد كُلِّفت بدراسة الكُلِّية العسكرية والتخصُّص في هندسة الطيران العسكري قبل العودة إلى السودان.
ومشيناها خُطَى كُتبت علينا، ومَنْ كُتبتْ عليه خُطَى مَشاها.
( ونُواصل)
السويد