توفيت إلى رحاب ربها المناضلة الرائدة فاطمة أحمد إبراهيم بعد أن تركت سيرة عطرة أغنت بها الحياة الفكرية والثقافية والسياسية في السودان، ضاربة أروع الأمثلة في البذل والعطاء، ويسر “التحرير” أن تقدم صفحات من هذه السيرة عبر حلقات، اعتماداً في المقام الأول على روايتها، فإلى الحلقة الثالثة:
تزوجت فاطمة أحمد إبراهيم من الشفيع أحمد الشيخ سكرتير الحزب الشيوعي في عام 1966م، وكانت عضواً بالبرلمان ، فاتفقا على تنفيذ قرار الاتحاد النسائي بمحاربة غلاء المهور، والصرف البذخي في حفل الزواج، فكان مهرها عشرة جنيهات فقط دفعت للمأذون مقابل إجراء عقد الزواج، ونسبة لكثرة المعارف والاهل، فقد قررا توجيه الدعوة عن طريق الصحف والإذاعة، على أن يقام الحفل في ميدان عام، وأن يُقدم للضيوف بلح فقط وماء بارد، فكان الحضور كثيفاً، وامتلأ ميدان الربيع، حيث اُقيم الحفل، ووجه سائقو البصات بشارع الأربعين القريب من منزله الدعوة للركاب، ولهذا فقد حضر عدد كبير من المتسولين والباعة، فلم ينتظروا حتى يقدم لهم البلح، بل هجموا عليه واختطفوه كله، فوقفت فاطمة واعتذرت للحضور، وعبرت عن سعادتها؛ لأن هؤلاء المساكين قد شرفوا الحفل، وحصلوا على البلح.
في اثناء تعذيب الشفيع في معسكر الشجرة بإشراف أبو القاسم محمد إبراهيم اتصل أحمد سليمان المحامي (صديق الشفيع سابقاً، وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي سابقاً)، بإخوة الشفيع، وطلب منهم أن يطلبوا من فاطمة الذهاب إلى الشجرة مع طفلها أحمد، لتطلب من نميري أن يوقف تعذيب الشفيع وإعدامه، وكان الغرض –حسب تفسيرها- أن تذهب إلى معسكر الشجرة، وينكلوا بها وبابنها أمام الشفيع حتى ينهار؛ لأن التعذيب لم يهده، وقابله بشجاعة نادرة .
واتصل بها شقيقها صلاح، ونقل إليها اقتراح أحمد سليمان فقلت له: “اتصلوا بالخائن أحمد سليمان وقولوا له :”الشفيع لم يرتكب جرماً، ولم يعرف بالخيانة طوال حياته، واخطروا الدكتاتور السفاح نميري، بانني لن أستجديه، لو قطع الشفيع إرباً أمامي، ولو قطعني إرباً سأبصق في وجهه قبل ان يبدأ في تقطيعي- وخير للشفيع أن يموت وهو مرفوع الرأس ، من أن يعيش وهو منكس الرأس”، واستدركت بعد هذا أن قلبها كان يقطر دماً.
وبعد فترة قليلة ارسلوا عربة ضخمة ممتلئة بالجنود ومعهم ضابط، فأدركت أنهم أعدموا الشفيع، فأخذت تهتف ضد القتلة المجرمين، فصوب أحد الجنود بندقيته نحوها، ولكن أحد رفاقه نكس البندقية، وقال له : الأوامر ان نعتقلها، لا أن نقتلها، وأخذوها إلى مركز الشرطة بأم درمان، وكان رئيس الشرطة ينوي إرسالها إلى المستشفى، لأن حالتها كانت سيئة، ولكن أبو القاسم محمد ابراهيم، وزير الداخلية آنذاك أمر بإرسالها إليه في وزارة الداخلية، وتم ذلك بالفعل – وكانت الشرطة في حالة استعداد تام – فأخذت تهتف : “يسقط القتلة المجرمين”، ثم اغمى عليها، وعندما عادت إلى رشدها، لاحظت ان بعض الجنود كانت دموعهم سائلة، وبعدها أرسلوها إلى مدير المديرية، فأخطرها بأنه تقرر حبسها بالمنزل مدة عامين ونصف العام، لا تخرج خلالها ، ولا يدخل عليها سوى أفراد اسرتها، والشيء نفسه نفذ في نساء الشهداء، فلما وصلوا منزل والدي بالعباسية ، وجدوا الشارع مكتظاً بالناس، والنساء يبكين بشدة فنزلت من عربة الشرطة، ورفعت رأسها عالياً، ووجهت التحية للمحتشدين، وطلبت منهم أن يكفوا عن البكاء؛ لأن الشفيع ورفاقه لم يموتوا، وإنما مات نميري، ورفاقه المجرمون، وإذا بعربة جيش صغيرة تأتي مسرعة من الاتجاه المعاكس، وتخترق الحشود متجهة نحوها، وانشل الجميع، وبما فيهم رجال الجيش والشرطة، ونزل ضابط الجيش، واتجه نحوها بخطوات عسكرية، ورافعاً كفه بالتحية العسكرية، إلى أن وقف أمامها، وأدى التحية العسكرية، ثم رجع نحو عربته بالخطوات نفسها، ويده لا زالت مرفوعة بالتحية العسكرية، وقادها بسرعة رهيبة، ومن هول المفاجأة لم يفكر ضباط وجنود الجيش والشرطة في تسجيل رقم سيارته. وبعد انتهاء فترة الحبس الشرعي تنكرت فاطمة وخرجت برغم وجود الحراس، وزارت قبر الشفيع، وبعد التلاوة والترحم عاهدته على ثلاث قضايا:
– ألا يدخل عليها رجل بعده
– أن تربي أحمد تربية تشرفه وهو في قبره .
– أن تسير في درب النضال من أجل الفقراء والمضطهدين.
فاطمة والاتحاد النسائي