(1)
تطرقنا في الحلقة السابقة من هذه السلسلة، ضمن عناصر أخرى، الى بعض المعلومات شبه المؤكدة التي يجاهر بها البعض، ثم بعض الشبهات التي يخافت بها آخرون، حول بعض ظواهر ومظاهر التغويص السياسي الأفقى والرأسي بين الاحزاب والتنظيمات السودانية بمسمياتها المتعددة عبر الحقب، وعددنا بعض الأسماء التي دارت الأقاويل بشأن غوصنتها.
وقد سألني بعض الأحباب من المنشغلين بأمر الغواصات، رغم ان السلسلة ما تزال في بواكيرها، حول ما توهموه من تجاوزي لاسم أحد الأركان الركينة لنظام الانقاذ الذي يردد بعض الاسلاميين انه ربما كان غواصة بعثية، غاصت حتى وصلت أعالي البحار الاسلامية. والحقيقة من أمر هذا الغواصة المزعوم أنني كنت قد تحريت واستقصيت، ثم استيقنت أن ما يشاع حول غوصنته البعثية لا تعدو كونها محض “خربقات”، لا تصمد أمام حقائق التاريخ، فقمت بايداعها في مخزن الخزعبلات التي يخصني، والذي احتفظ فيه بعدد كبير من خزعبلات السوادنة.
ولكن هناك معلومة هامة لا بد من الوقوف عندها في شأن هذا الغواصة المفترض، وهو البروفيسور ابراهيم غندور، والذي اتضح لي انه لا يقترب من البحار والأنهار ولا يعرف السباحة اصلا. وهي أنه لا ينكر بعثيته السابقة ولا يتنكر لها، بل يذكرها بكل الاعتزاز. فقد كان الرجل لأول أمره منتميا للشبيبة الاتحادية، ثم تم تجنيده بعد ذلك بوقت قصير بوساطة جماعة الاشتراكيين العرب، تحت شعارات “حرية، اشتراكية، وحدة”، وذلك في سبعينيات القرن الماضي. كان ذلك في شرخ الشباب وعهد الطالبية في مدرسة النيل الأبيض الثانوية بمدينة الدويم حيث استغرق في القراءة لعمالقة البعث من سنخ ميشيل عفلق وشبلي العيسمي. وكانت الدويم، مثل الأبيض عهدذاك، قلعة من القلاع البعثية. ولذا فقد كانت تحظى بزيارات سرية لقائد البعثيين السوادنة وملهمهم المغفور له بدر الدين مدثر.
ولكن الطالب ابراهيم غندور الذي كان قد تحول من الحركة الاتحادية الى التنظيم البعثي، دار دورة اخرى عند دخوله جامعة الخرطوم منتصف العام 1972، حيث هجر الفكرة البعثية وانخرط في تنظيم الاتجاه الاسلامي، بل وشارك في انتفاضة شعبان الشهيرة تحت قيادة المرحوم أحمد عثمان مكي.
وكان الكادر البعثي ابراهيم غندور يواظب على الصلاة في مسجد البركس، كما كان ممّن يلعبون كرة القدم ويمارسون الرياضة بأنواعها، فضلا عن كونه شخصية اجتماعية محبوبة عند غالبية الطلاب، وكلها صفات تنطبق على من يقع عليهم الاختيار للتجنيد من قبل التنظيمات الناشطة في الجامعات. ولهذا كلفت الحركة الاسلامية الطالب بالسنة الرابعة من كلية الاقتصاد سيد الزبير، وزميله الطالب (البروفيسور لاحقا) حسب الرسول صديق، وشقيقه (المهندس) سليمان صديق، للالتفاف حول طالب السنة الاولى في كلية العلوم، الشاب اللامع بهي الطلعة، سليل الغنادير، ومحاصرته واستقطابه. وقد نجحت الفرقة المكلفة بالتجنيد نجاحا مؤزرا، في اقتلاع صاحبنا من جذوره البعثية وإلحاقه بحركة الاتجاه الاسلامي.
اصيبت جماعة البعث بصدمة بالغة عندما انتهى اليها النبأ المفجع، ولكنها تماسكت وصبرت وتقبلت الأمر على مضض. ثم اتصلت بصاحبنا وطلبت اليه ان يمنحها عهداً بألا يفشى أي سر من أسرار تنظيم البعث وقع عليه بحكم عضويته السابقة، فأعطاهم الرجل ميثاقه، ثم مضى في طريقه (الكوزنة) لا يلوي على شئ.
تقلب الرجل إذن بين التنظيمات، ثم ثبت واستدام في حركة الاسلام السياسي، ولكنه لم يتغوصن بأي وجه من وجوه الغوصنة، ولا يستقيم بالتالي ادراج اسمه ضمن الغواصات السودانية.
(2)
برغم الغموض الشديد الذي يكتنف تاريخ جمعية اللواء الابيض التي قادت انتفاضة 1924 الشهيرة، فإن بعض المؤرخين يميلون الى الاعتقاد بأن اول غواصة في تاريخ السودان الحديث هو أحد أعضاء تلك الجمعية، ويزعمون أن المخابرات البريطانية جندته وغوّصته بين الثوار.
والاشارة هنا الى المرحوم على أحمد صالح، الذي اشتهر بلقب (ودحاجي)، والذي كان عضواً فاعلاً في جمعية اللواء الابيض، وله دور مشهود في رسم خططها واستراتيجياتها. ولكنه تحول بشكل مفاجئ ومريب، وظهر بصفة شاهد ملك ضد الحركة، وضد زملائه من مؤسسيها ونشطائها عند القبض عليهم ومحاكمتهم. ثم تحوّل مرة اخرى فأصبح شيوعياً، وهاجر الى المانيا في نهاية العشرينيات حيث التحق بالحزب الشيوعي الألماني!
(3)
لم تعرف الأنظمة الوطنية التى اعقبت الاستقلال مباشرة ممارسات التغويص بصورة يُعتد بها، وذلك حتى أطل فجر انقلاب (او ثورة) مايو 1969 فدخلت بلادنا عهداً جديداً. وقد كان جهاز أمن الدولة هو اول منظمة يتم تأسيسها في سبعينيات القرن الماضي وفق النظم الحديثة للعمل الأمني والاستخباري، واول كيان سوداني يقوم بتدريب وتوظيف الغواصات بصورة منهجية.
حملت تلك المنظمة في مبتدأ أمرها اسم (جهاز الأمن القومي)، وتولى قيادتها على التوالي كل من الرائد مامون عوض ابوزيد، والعميد الرشيد نورالدين، واللواء على نميري، واللواء عمر محمد الطيب. وقد ضم الجهاز عدداً من عتاة البصاصين والجلاوزة، ومحترفي صناعة وتوظيف الغواصات. كما كان للمرأة السودانية دوراً مقدراً في ذلك الجهاز الذي ضم عدداً لا بأس به من البصّاصات والجلوازات من ذوات الثدي.
وفي يومنا هذا تكاد وقائع وممارسات ذلك الجهاز، فيما يتصل بتغويص واختراق التنظيمات السياسية المعارضة وغيرها من الكيانات ذات النفوذ والفاعلية في الحياة العامة، ان تكون كتاباً مفتوحاً. إذ كتب عنها الكاتبون طروساً بحجم جبل الكدركول.
ولكنني كنت كلما ذكرت تجربة جهاز الأمن المايوي( جهاز أمن نميري) مع جماعة الحزب الجمهوري انتابتني واستغرقتني حالة من الضحك تبين معها نواجذي!
(4)
برغم أن (الاخوان الجمهوريون) لم يناصبوا مايو العداء، بل أيدوها ودعموها، الا ان ذلك لم يكن كافياً ليغل عنهم تدخلات وتطفلات بصاصي النظام، الذين بلغت عزيمتهم مداها في ان يغوصوا ويخترقوا كل حركة نشطة تنضوي تحتها جماعة منظمة، مهما كانت مواقفها السياسية المعلنة.
كلف الجهاز أحد ضباطه بأن يغوص داخل جماعة الاخوان الجمهوريين، وأن يحضر جلساتهم، ويتابع أنشطتهم ويرصدها في تقارير دورية. ونجح البصاص الغواصة ذات مرة في أن يجد لنفسه موطئ قدم في منزل الاستاذ محمود محمد طه. وجلس الى القوم وقد شرعوا في إنشاد بعض اناشيدهم. وتصادف ان كانت القصيدة الاولى هي القصيدة الشهيرة للشاعر الصوفي العارف بالله عبد الغني النابلسي (نحن اهل الصفا لا نقبل الكدرا).
وعندما أنشد الجمهوريون أبيات النابلسي التي تقول كلماتها: (واحذر من الأمن أيضا فهو مهلكةٌ / والله يمكر فاحسب أنه مُكرا / ثم استقم دائما ترجو مواهبه / وتختشي منه تقضي عنده الوطرا)، اضطرب الغواصة اضطرابا شديداً، وساح في بحر من العرق، وبلغ منه الوجل كل مبلغ. وقد ظن ان القوم قد أماطوا لثامه وكشفوا سره، وأنهم انما ارتجلوا كلمات القصيدة ارتجالاً ليبعثوا اليه برسالة تحذير وانذار!
وهنا قام الرجل من فوره، وارتدي حذاءه، وغادر المكان، ولم يُعاود بعدها أبدا. وكان قادة الجهاز قد كلفوا قبل صاحبنا هذا غواصةً اخرى باختراق صفوف الجماعة، والغوص في مياهها، فنجح أيضاً في ان يجد لنفسه مكانا في مجلس الاستاذ محمود وقومه، وحضر عدة جلسات. ولكنه عاد بعدها الى رؤسائه وطلب إعفائه من المهمة قائلاً: “الجماعة ديل كلامهم كلو أحمدية ومحمدية، وما قدرت افهم أي حاجة”!
(5)
ولكن المحنة الكبرى التي اصابت جهاز أمن الدولة المايوي في أمر علاقته التغويصية بجماعة الاخوان الجمهوريين لم تكن هي فشله الشنيع في اختراقها، بل انها تتجلى في حقيقة أن ذلك الفشل بلغ من المبالغ أغربها واعجبها عندما اخترقت الجماعة نفسها جهاز الأمن اختراقاً مضادا، واستقطبت عدداً من افضل كادراته، وساقتهم الى صفوفها.
من هؤلاء البصاصين المقدم (أمن) عبد الله الدابي، مسئول القسم العقائدي بالجهاز، والمقدم (أمن) محمد على مالك، اللذان غشيا مجالس الجمهوريين بغرض البصاصة والغوصنة، ولكن الفكرة الجمهورية راقتهما، فتأملاها وتدارساها، واستأنسا بها، ثم أنضما الى الجماعة. وهنا جزع كبار المسؤولين فواجهوهما مواجهات حاسمة. وانتهى امر الجلوازين بالتخيير بين المحافظة على وظيفتيهما في الجهاز، او الاستقالة في حالة الاصرار على الاستمرار في الالتحاق بالجماعة، فاختارا الاستقالة.
أطال الله في عمر الثاني، المقدم محمد على مالك، وبارك فيه. أما المقدم عبد الله الدابي فقد توفى بولاية آيوا الأمريكية، وله ضريحٌ هناك يزوره الاخوان الجمهوريون.
*كاتب صحافي سوداني مقيم بالولايات المتحدة
mustafabatal@msn.com