مشروع الجزيرة ذلك العملاق الذي هوى يشير بأصابع الاتهام إلى حكومة الإنقاذ، بوصفها أطلقت رصاصة الرحمة عليه، وتتحمل الوزر الاكبر في انهياره، بسبب سياساتها وإهمالها لأكبر مشروع زراعي في الشرق الاوسط وافريقيا يروى بالري الانسيابي، بعد أن كان يقف شامخاً بإنتاجه الوفير، الذي جعله من أنجح المشروعات العالمية، إذ كان يمثل بمحاصيله النقدية خصوصاً القطن عماد الاقتصاد السوداني، والركيزة الأساسية التي توفر العملة الصعبة؛ لتسهم في تسيير دولاب العمل في الدولة، والإسهام في تحقيق التنمية الاقتصادية، باستيراد مدخلات الإنتاج لقطاعي الزراعة والصناعة من عائدات انتاجه .
هذا ما يقال باختصار عن مآلات المشروع، لكن في هذا التحقيق نحاول أن نضع النقاط على الحروف، ونعرف بالضبط ماذا حدث لهذا المشروع العملاق؟ يشارك في إجابة هذا السؤال الكبير خبراء الزراعة ورجال الاقتصاد وأهل الوجعة من المزارعين بالمشروع.
تشريح الأزمة
حاول كثير من الباحثين والخبراء تشريح الأزمة التي عصفت بالمشروع في رحلة بحث مضنية؛ لمحاولة إعادته إلى سيرته الأولى، وكان على رأس هؤلاء الخبير الزراعي البروفسير محمد زين العابدين الذي عمل في معظم إدارات المشروع في عهده الذهبي. وهو يرى أن أكبر مشكلة واجهت مسيرة المشروع هي التمويل، الذي تقاعست وزارة المالية عن توفيره، وهي المسؤول الأول والأخير عن ذلك؛ لأنها تملك أصول المشروع فلم تلتزم الوزارة توفير السلفيات للمزارعين؛ حتى يتمكنوا من تحضير الأراضي، وإدراك الموسم في مواعيده المحددة، وهو ما فاقم الأزمة، وانعكس سلباً على مسيرة المشروع، ومثل عجز المالية في الإيفاء بتسليف المزارعين رأس الرمح في أزمة مشروع الجزيرة، بسبب تأخير زراعة المواسم في تلك الفترة، وكان ذلك داية الانهيار الحقيقي، إذ أثر تأخر التحضير للموسم، وتأخر وصول الأسمدة والمبيدات في الإنتاجية، وفقد المزارع قيمة إنتاجه بعد أن فاقت تكلفة الانتاج العائد، وهذا الأمر أدى إلى اختلال الميزان، وأحدث هزة عنيفة، دفعت كثيراً من المزارعين إلى الخروج من القطاع الزراعي؛ لأن المزارع وجد نفسه – علاوة على خسارته في الزراعة – مطالباً بدفع الضرائب والزكاة، وإيجار الأراضي، وتكلفة الري.
وقال البروفيسور زين العابدين: “دفعنا حينها للخروج من هذه الأزمة بمقترح يقضي بتمليك أصول مشروع الجزيرة لإدارة المشروع، بدلاً من وزارة المالية؛ حتى تقوم بتوفيرالتمويل بعدة وسائل، بما فيها رهن الأصول”.
مشكلة العطش
ومن باب أن النار تحرق (الواطيها)، استوجبت الضرورة استنطاق المزارعين المكتوين بنار الانهيار المريع، الذي حدث بالمشروع .
المزارع حسن علي قسم السيد اجتر ذكريات بداية الانهيار، والصراع المرير الذي خاضه المزارعون مع السلطة، التي تنصلت من مسؤولياتها، وسعت إلى تصفية المشروع تماماً، بعد أن عجزت كل محاولاتها الفاشلة في معالجة الأزمة، التي استحكمت وتعمقت وقبضت على (عصب) العملاق.
قال قسم السيد: “في تلك الفترة ضربت المشروع موجة عطش قضت على آخر أنفاسه، وحطمت كل الآمال لعودة الحياة إلى جسده؛ لأن العطش يمثل مشكلة أساسية في تدني الإنتاجية”، وحسب قسم السيد، فان مشكلة العطش كانت نتاج سياسات غير مدروسة علمياً؛ لأن ترعتي الجزيرة والمناقل في الأصل صممتا لري مساحات معينة، ولمحاصيل معينة، وفي مواسم معينة، وفي تواريخ محددة، لكن ما حدث هو تكثيف الدورة الزراعية، وهذا ما أدى إلى إلغاء الأرض البور، وإدخال محاصيل جديدة، مثل: القمح والأرز، وهو ما زاد الحاجة إلى المياه لري تلك المحاصيل بأكثر مما تستوعبه شبكة قنوات الري بالمشروع في الجزيرة والمناقل، وهذا أدى إلى شح المياه، والتسبب في موجة عطش أفشلت الموسم الزراعي، ومنها بدأت عملية الانهيار الخطير للمشروع.
لكن البروفيسور زين العابدين أوضح أن واحداً من مقترحاته التي كان قد دفع بها مقترحاً لمعالجة مشكلة العطش في المشروع؛ إذ قدم حلولاً – في رأيه – كانت ستعمل على الخروج من عنق الزجاجة، الذي حدث بفعل تلك السياسات التي اتخذتها الحكومة، وهي ضرورة الرجوع إلى نظام الدورة الزراعية القديمة، التي نشأ على أساسها المشروع، والعمل على إزالة الطمي، وتطهير القنوات بعد معالجة مشكلة الآليات التي تقوم بإنجاز المهمة.
تمليك الأراضي للمزارعين
الحكومة وفي محاولة منها لمعالجة الأزمة التي استفحلت قامت بتمليك الأراضي للمزارعين؛ ليزرعوا ما يشأؤون؛ حتى ترفع يدها تماماً عن تقديم المعينات للمزارعين، وهو ما عدّه كثير من الخبراء الزراعيين حلاً غير موفق، ويمثل تهرباً من الحكومة، خصوصاً أنها كانت تقوم على الأقل بمساعدة المزارع في مكافحة الآفات الزراعية والأمراض، وهو جهد مضن ومكلف للغاية لا يمكن للمزارع أن يتحمله ، وقال محللون أن الحكومة بخطوتها هذه أرادت أن تعمل على إخماد ثورة المزارعين التي قادها تحالفهم بعد إقرار قانون 2005 وتحاول محاولة يائسة أن تقفز من المركب الغريق، وذلك بإغراء بعض المزارعين بتمليك الأرض؛ ليكون معالجة جديدة للأزمة، لكن الأمر أثر في عمليات تسويق المحصول، خصوصاً ما يفيض عن الحاجة المحلية إلى التصدير، وأشار خبراء إلى أن هذا القرار زاد من الأزمة؛ إذ أصبحت عمليات الري تتم بصورة غير مرشدة، وهو ما تسبب في قلة المياه في بعض الترع؛ لأنها اصبحت في يد المنتجين الذين هم أقل خبرة من المهندسين الزراعيين المسؤولين بشكل مباشر عن عملية ترشيد المياه، وتوزيعها بمساعدة الفنيين والخفراء.
اقتراحات وحلول
الخبير الزراعي البروفيسور محمد زين العابدين كان قد أعد ورقة بحثية قدم فيها كثيراً من الحلول لمشكلات المشروع أجملها في ضرورة الرجوع إلى العمليات الزراعية في الحرث العميق؛ لتفكيك التربة؛ لكي تكون صالحة للنمو السريع للمحاصيل، وقال: إن طبيعة الأراضي الطينية الثقيلة بالمشروع تتطلب الرجوع إلى تلك العمليات مع اتباع عملية تسطيح الأرض، وعمل السراب الطويل في الري، وفي ممارسة العمليات الزراعية بالألة من زراعة وحش وحصاد، والرجوع إلى التركيبة المحصولية القديمة : القطن، والفول، واللوبيا ، والذرة ثم الأرض البور للمساعدة في خصوبة التربة، وتقليل استعمال المخصبات الكيميائية ،في وقت صار فيه استعمال الاسمدة الكيميائية غير مرغوب عالمياً، وتطوير البحوث الزراعية، ومدها بالكفاءات العلمية؛ حتى تقوم بدورها لاستنباط العينات المقاومة للآفات، والأمراض، وذات الإنتاجية العالية. علاوة على دعم إدارة الإرشاد الزراعي والاقتصادي وتطويرها؛ حتى تقوم بإرشاد المزارعين، والتنبؤ بأسعار المحاصيل في وقت مبكر، وضرورة إقرار علاقات إنتاج جديدة تستهدف محاسن الحساب المشترك والحساب الفردي، وإرجاع إدارة الخدمات الاجتماعية، واستقطاع نسبة من الأرباح، كما كان يحدث سابقاً للتنمية الاجتماعية والخدمية، من تعليم وصحة ومياه شرب نقية وصرف صحي.
إجابات مقبلة:
تلك مقترحات – حسبما أشار الباحث والخبير الزراعي البروفيسور محمد زين العابدين- كان يمكن أن تساهم في إعادة المشروع إلى سيرته الأولى، إلا أنها لم تترجم إلى الواقع من الجهات المسؤولة في الحكومة، لكن هناك ورقة بحثية أخرى – عن مشروع الجزيرة تحدثت عن علاقات الإنتاج – توصلت الى أن أزمة المشروع نابعة من تأثر الإنتاج بالظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية السائدة في الدولة، وأجابت عن سؤال: من دمر مشروع الجزيرة ؟ كما نتناول كيفية توزيع عائد الإنتاج على الشركاء الثلاثة (الحكومة، والإدارة والمزارع) تحت نظام ما يعرف بـ (الحساب الفردي).