الورقة الأخيرة..
قصة قصيرة ..
فعلت المستحيل من أجل أن أبقى على جسده النحيل طافياً فوق الماء. أمواج قاسية كانت تلاطم أعمدة الجسر التي انغرست في أعماق النهر حيث نقطة المنتصف بين ضفتيه . الرصاص المنهمر على رؤوسنا حتم علينا الإحتماء بتلك الأعمدة الصدئة . المقتلة المفتوحة على اليابسة المقابلة حاصرتنا بهولها حتى احتبست منا الأنفاس . زخات المطر التي تهاطلت من فوق سماء غائمة لن تغسل ما تخضبت به الأرض من عار في ذلك الصباح .
الغاز المسيل للدموع ، رائحة البارود، نحيب الفتيات المنكسرات والدم المنسكب على التراب .. كل تلك الأشياء لم أر كبأسها شيئاً منذ أن وُلدت . خوذات العسكر تراءت لنا كمرآة التمع على سطحها مزيج من الدم و الرذاذ . هؤلاء كانوا وكلاء الموت في ذلك اليوم . قالها لي ساخراً و قد ارتمت أجسادنا المستوية على الأرض و نحن نطلب النجاة . بدأنا الزحف و نحن عشرة .ولما انتهينا إلى شجرة اللبخ المتاخمة لناصية وزارة الصحة ، لم يبق على قيد الحياة من أحدٍ سوى شخصي و هو . زحفنا بإصرار نحو النهر . و لما اقتربت أقدامنا من ملامسة الماء ، انتثر حولنا الرصاص و هو يتساقط في طيش عابث. لم أكن أعرفه من قبل ، لكن ما جمعني به كان كافياً لأسبغ على نفسي شرف صداقته المخلصة . توغلنا نحو غياهب النهر بحذر . كان سباحًا ماهراً بلا شك بيد أن جسده الناحل لم يكن ليقوى على مغالبة أمواج النيل العاتية. قناص خبيث ظهر عند بداية الجسر ثم بدأ في تسديد طلقاته بإتقان ..
آه ..آه
سمعت صيحته الأخيرة و قد انسكب الدم من صدره ليرتمي على وجهي بغزارة . كنت أعرف أن الموت قاسٍ و فجَّاء و لكني لم أتخيله أبداً كما إمتلأ به بصري الآن . كطفل رضيع تستمسك قبضته الواهنة بكل أصبع يمتد إليه ، تشبثت أنا بالحياة لآخر رمق . لم يلبث رسول الفناء ذو الخوذة ذاك أن انصرف بعدما توهم أداء مهمته على أكمل وجه . قبلت صديقي في جبينه ثم دسست يدي في جيبه لعلي أَجِد فيه ما يشير إلى هويته . لدهشتي، لم أجد سوى ورقة فلوسكاب مبتلة وقد اندلقت فيها كلمات ما زال حبرها العنيد باد للعيان . عبثاً حاولت اللحاق بهاتفه قبل أن يغوص مع جسده نحو أعماق النيل كحجرٍ حصبه صبي في العاشرة من عمره .
اليوم و بعد مرور سنتين على هذه الحادثة ، ما زال صدري مُثقلٌ بما احتوته تلك الورقة . الورقة التي أحاط الصدق و الوفاء بكل كلمة بُذلت فيها بين الأسطر و الهوامش .دعوني أقرأها لكم كما هي .. ولتنصتوا -فضلاً و ليس رجاءاً- لما جاء فيها خاشعين :
الورقة الأخيرة ..التاريخ : ٣-٦-٢٠١٩
هذه ” العازة” ..
حينما أحببناها.. لم نصطنع الكلمات لنتزلفها كما يتزلف المراهق فتاة حلوة ممتلئة الشفتين وقد استولى عليه النزق القتّال . لم نرسم الحروف وهي تخرج من حناجرنا كما يفعل المراؤون ،لنُثبت أقوالنا في محاكم التفتيش . لم نبتذل القوافي المُحاكة كجبةٍ رديئة القماش لا تستحلي زيفها الأبصار . لم نصب في كؤوسنا الزجاجية أي قطرة نبيذ ولا هتفنا بإسمها وقد أعيانا الثمل . ولم نشرب على نخبها أي دم مسفوك ولا خضبناها يوماً برايات حمر ولا صفر و لا أخرى نُقش عليها زيفاً اسم الله . لم نضارب على بضاعتنا في مزادات التكسب والتسكع بأزقة الفرص ونهازيها من المرابين . حينما أحببناها، لم نكتب لها رسالة عشق واحدة . لم نتلصص الطريق لندسها في جيب الوسطاء .. ثم نرجع لنتخيل بإلتذاذ جارف كيف أوقعناها في شراكنا كما كان يتوهم ” ابو الدرداق” حين يحلم بنفسه و هو يُزف إلى حبيبته ” القمرة” ..
لم نتدحرج لمزالق البوح لأن صدورنا ما عادت تكتم سراً . باحت بما فيها فتاة “حمرية” وهي تدندن على صهوة ناقة من فوق ” الشبرية” .. تنادي حبيباً غائباً في غياهب ” النشوق” سعياً وراء قطرات الخريف . و هل تعرفون ماذا تعني ” الشبرية” و أين يكون “النشوق” ؟؟ عذراً مثل هذه الكلمات قد لا تجدونها في ” لايف” أو ” بروفايل” مرصع بالمعجبين . ولكن ..ويا للمفارقة.. قد تجدونها في ” شخابيط” تافهة لثائر مغمور كالتي بين يديكم الآن !
لا حاجة لنا بالصياح والنعيق . نعم لا حاجة لنا به ، لأننا ممتلؤن بأهازيج “البرتي” و رقصات فتياتهم السمراوات في شمال دارفور . نُميز زغاريدهن من على بعد مئات الأميال حين يقابلن رجالهن بشوق لا يعدله سوى حب واله لإنتصار السلم على الحرب . لا حاجة لنا بجلبة البراميل الفارغة .. لأن آذاننا ما زالت تستحلي فرقعة ثمرات المانجو و هي تتدفق من أعالي جبل مرة نحو سفوحه الخضراء ، فتقع على رأس ” دارفوري” نبيل وقر القرآن في صدره فعلمه أن يأخذ منها ثمرة ثم يترك الباقي لمن يحتاجه . لا حاجة لنا بالتجديف بصخب فوق الماء .. لأن هناك ثمة تمساح عشاري ضخم .. رأيناه يتردد على ضفتي النيل الأبيض بين ” الكوة” و ” كتير بلة” .. و ” الكنوز” و “الجزيرة ابا” و “الفاشوشية” .. فعّلمنا أن يترك الصغار الغافلين و شأنهم دون أن يعتدي عليهم و هم يسبحون في النهر نصف عراة . علمنا هذا العشاري النبيل كيف تصنع المعروف ثم تغوص بجسدك في جوف النيل بتعففٍ ليس له صنو .
لم نتسلق المرتفعات لنجلس على قمتها و نحن نرمق الآخرين بزهو كذوب ..لأن ثمة جبل ما يرقد على ضفاف النيل في الشمال يقال له “كربكان” .. هل سمعتم به ؟ لا بأس .. فهو نفس الجبل الذي تسلقه موسى ابو حجل حين قابل الغزاة الإنجليز فعرفوا عندها كيف يتحدى الرمح المدفع . هناك جندل بحربته الجنرال وليام ايرل ثم انزوى في غياهب التاريخ بلا طحن و لا دقيق. هناك في مناطق المناصير والرباطاب حيث يلتف قضيب القطار بمسار نصف دائري ضخم وصولاً إلى ” عطبرة” مدينة الميعاد والمقاومة .. و أورشليم الجوعى و المتعبين
ندوس على جراحنا كما يعصف جمل العصارة ببأسه حبات السمسم فينثال منها زيتٌ زكي الرائحة .إنه ذات السمسم الذي يأتي محملاً من القضارف.. حيث يختلط وقع أقدام الفلاتة والهوسا في رقصاتهم الجماعية ب”دوبيت” اللحويين و الضباينة و دندنات البني عامر والحباب والهدندوة حول فنجان قهوة وهم يتحرقون شوقاً للعدل والإنصاف. هناك تلتف هذه الأهازيج والأماني حول قضروف ود سعد كما تلتف ذراعا طفلة حلوة وادعة حول عنق أبيها قبل أن تنام .
نفترش العراء هنا في ميدان القيادة وفي كل الميادين التي يدعي أصحابها مقدرتهم على قيادتنا دون إذن منا. نكتب التاريخ ونحمي دفاتره من عبث المزورين و تدليس الأعراب الصديقة . نوثق لطفل ما زالت ملامحه تتشكل في غياهب المجهول .. كيف أحبت أمه ” الكنداكة” أباه حين كان غض الإهاب يهتف بصدق الأنبياء في وجه الجبروت .و لما جاءت الكاميرات لتنقل حقيقة ما حدث ، بحُ صوته ، و خرج الجبناء من الأزقة الخلفية فسادوا المشهد وتحينوا صمته لإسكاته الى الأبد . مارسوا عليه الوصاية بدرجة قرمزية فاقعة اللون . و صار كل شيء كقطعة حلوى تتجاذبها مجموعة من الأطفال !
سنظل هنا موغلين في العتو والعناد بذات القدر الذي ظلت فيه قبة ” المهدي” برأسها المشروخ تقاوم صلف الإنجليز حتى المنتهى .. فذهب كتشنر وتخطفت جثته حيتان البحر . وبقي ذات الضريح بطيبه العابق وهو يتبسم بسمته الأخيرة وقد غادرت ساحته أقدام المحتلين برؤوس مطأطأة . سنبقى هنا بذات الإصرار الذي يُجّمع فيه نهر الدندر كل قطرة ماء بين الوديان و المفازات فيصرع الفناء و يكسر أنف قوانين الطبيعة . سنتدفق بذات الغليان الذي يهدر فيه نهر السوباط فيجرف كل ما واجهه من المطبات والمرتفعات و يمحو من شاء من الوجود . سنقاوم وفاءاً لعبدالعظيم و بابكر و محجوب و هزاع والطيب صالح .. وشوقي الذي قتلوه لأنه هتف من أجل قطعة خبز .سنقاوم وفاءاً لهم ولآخرين سيأتون دون تأخر في المواعيد الكبيرة . سنتذكرهم جميعاً حين تتواري أسماؤهم في ذواكر الانتهازيين المتسربلة بأغشية النسيان وهم يلهثون خلف التفاهات ويتنازعون على الفتات .
نحن أولاد هذه الأرض وجندها . تتنسم هي رائحتنا كما تتنسم الأم رائحة ابنها . تستنشقها كما يستنشق الطين الدعاش . تحثو وجوهنا ب ” الهبوب” فلا نقول إلا ما يرضيها .. تماماً كما كان يفعل ” اباداماك” مع أمه . هذه الأرض هي أمنا ولنا في خدمتها دمٌ و عرق . سنظل هنا ، نحرسها بالروح و التعاويذ و التمائم .. ندفع عنها غوائل الأذى .. أو دونها نموت ..
انتهى ..