عدت الى لندن عصر اليوم (٣ يونيو ٢٠٢١) من مدينة بيرمنجهام ببريطانيا، بعدما قدمت العزاء الى الأخ العزيز دكتور عاصم محمد اسماعيل في وفاة والدته واصلة فضل الله بمدينة بارا .
كانت السيدة الراحلة طيبة الذكر وحلوة المعشر ،باجماع من نعوها بمحبة من أهلنا ، هناك في بيرمنجهام قدمت التعازي للأخت نهى زوج عاصم وابنتهما إباء وللأهل في بارا.
تربطني بعاصم وبشير وأهلنا في أسرة جدنا اسماعيل (الماذون) علاقة قربى قوية نابعة من قاسم مشترك هو جدنا الكبير (ود جندي).
خلال أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس في بيت عاصم يلمس المرء الحزن العميق والشديد في أعماق عاصم ونهى وإباء، والمعزين من طيور بارا المهاجرة والسودان،وهناك دعاء للفقيدة بالرحمة لا يتوقف .
بصمات الأم الناجحة رائعة ( كما كان حال واصلة) التي لعبت دورا حيويا في تشكيل شخصيتي بشير وعاصم ونجاحهما وتفوقهما الدراسي والعملي، وقد تميزا بالنباهة منذ سنوات الطفولة .
يحسب لبشير وعاصم أنهما قررا- رغم اقامتهما خارج السودان- أن يتناوبا البقاء مع الأم لأطول فترة حتى يواصلا رعايتها واحاطتها بدفء مستمد من دفئها.
كان بشير يقيم في بارا لأشهر عدة مع أمه ،ثم يأتي دور عاصم ليمكث أشهرًا عدة ، وكان عاصم الذي عمل في موقع حيوي في الأمم المتحدة بالسودان قد حرص أن ترافقه الوالدة في عدد من محطات عمله قبل اقامته في بريطانيا .
كلما رحلت أم (أي أم ) أحس بوجع بناتها وأبنائها، وداع الأم موجع ولا يعرف مواجعه وأحزانه الا من فقد أمه.
رحم الله واصلة وأمي (ستنا) التي رحلت عن دنيانا قبل سنوات قبل أن تنتهي رحلة سفري الاضطراري الطويل، التي حرمتني من دفء عناقها خلال سنوات عدة،كما أسأل الله أن يرحم رحمة واسعة كل الأمهات الراحلات .
خلال رحلة العودة بالقطار من بيرمنجهام الى لندن استرجعت شريط ذكريات عطرة لراحلين أعزاء فقدتهم خلال الفترة الماضية.
قرأت في رحلة العودة الى لندن نعيا كتبه ابن بارا المبدع الصحافي الكبير والأستاذ الجامعي المقيم في أميركا دكتور عبد الله جلاب ،عن الراحلة واصلة، اذ حملت حروفه نبل مشاعره عن أخته واصلة، وتحدث عن شخصيتها وعاطفتها الدفاقة، ونبلها.
تأملت حروف جلاب، ثم أعدت قراءة حروفه غير مرة ، ثم تابعت -وانا في القطار- رسائل وصلتني من السودان ، فحملت خبرا موجعا عن رحيل العم والصديق في الوقت نفسه عبد العظيم عباس مالك.
عبد العظيم الذي اشتهر ب(البيطري) هو زوج الخالة فاطمة بنت جدنا دفع السيد دفع الله، وقد حل عبد العظيم في بارا قبل سنوات عدة في وظيفة (مساعد طبي ) ثم تزوج (بت دفع السيد) وكنا نسكن سويا في بيت واحد كبير ومتسع للجميع بمساحته وبقلوب أهله .
منذ سنوات الطفولة ،أنا وأخواني وأخواتي تفتحت عيوننا على وجود عبد العظيم وفاطمة في عالم الأسرة،كنا نسكن معا ، تقاسمنا الطعام وتناولنا الوجبات معا.
كانت فاطمة، بيدها وقلبها وروحها ومشاعرها تعين أمي (ستنا ) في تربيتنا ، إذ كانت وما زالت (أما) لنا بعد رحيل أمي ،حبيبتي، ستنا ، وكان عبد العظيم أخا عزيزا لوالدي الراحل (الخليفة) أحمد الأمين الماحي.
على الصعيد الشخصي كان فقيدنا (البيطري) عما وصديقا لي ، تشكلت بيني وبينه علاقة محبة ومزاح أيضا، وكان يفرح بنجاحنا في المدارس،وقد توثقت العلائق بيننا ،وكان بعض الناس -بسبب اندماجه في مجتمع بارا وطول فترة اقامته في ربوعها- لا يعرف أن عبد العظيم الشايقي (ولست من هواة التصنيفات القبلية ) جاء الى بارا الخضراء ،الوريفة، والحنون ، من بلاد الشايقية موظفا حكوميا، كما تعود جذور جدي لأبي (الخليفة) الماحي الى منطقة(الجابرية) في الشمالية، ومن أم درمان انتقل الى الأبيض ١٩٠٢ مرافقا للسيد محمد المكي، ومنها الى بارا.
أمي الراحلة (ستنا) والخالة فاطمة زوج الراحل عبد العظيم من (دار حامد)، هكذا تتجلى في بارا وكردفان روعة التفاعل الانساني السوداني من خلال التنوع والتعددية( البشرية) الجميلة .
مع رحيل عبد العظيم سيذكر أهل بارا ممن عرفوا الفقيد أن القادم من دار الشايقية وهو شقيق الوزير السابق منذ أكثر من أربعين عاما الراحل الأستاذ عبد الرحمن عباس كان محبا لبارا، بل كان من أهلها ، وتمتع كغيره من السودانيين المقيمين في بارا بكل حقوق المواطنة، اذ يحق لأي سوداني أن يعيش في أي مكان داخل وطنه، وهكذا يتحقق التفاعل بين بنات وأبناء الوطن الواحد بدون تصنيفات قبلية .
كان عبد العظيم رجلا طيبا،تفاعل مع أهلنا في بارا، في أفراحهم وأتراحهم ،وعاش هناك أجمل سنوات عمره في مدينة تحب ولا تكره ، لأنها تهوى اللون الأخضر وجمال الطبيعة الذي يبدو جليا في (سواقيها) وملامح حسانها أيضا.
عبد العظيم لم يغادر بارا الى الجريف بالخرطوم حيث يقيم عدد من أسرته وأهله الا عندما حانت ساعة دخول بنتيه(لبنى ونجلاء) وأبنائه (عباس ومحمد وأسعد) الى مرحلة التعليم العالي، وهنا يتجلى قراره الصائب والحكيم ، من أجل فلذات كبده ، عبر أوسع أبواب التعليم ،وقد نجحوا بحمد الله، ويواصلون مسيرة عناق بدأها الراحل مع الأهل في بارا والخرطوم ومواقع أخرى .
برحيل واصلة، وعبد العظيم فقدنا في بارا شخصيتين كانتا ملء السمع والبصر، اذ رحلت ورحل بعد حياة تميزت بالصبر الجميل على تربية الأبناء وتعليمهم.
ما أجمل عطاء الأمهات والآباء الذين يشعلون شموع العلم و التعليم والتنوير (في ظروف حياتية صعبة) ليبنوا العقول النيرة، لتتواصل مواكب العطاء .
أجدد التعازي للأخوين بشير وعاصم في رحيل الوالدة واصلة وللأسرة والأهل في بارا.
التعازي للخالة فاطمة(بت دفع السيد) ولبنات دفع السيد ، وللأختين العزيزتين لبنى ونجلاء،والى الأخوة عباس ومحمد وأسعد في وداع ورحيل العم والصديق عبد العظيم عباس مالك، وللأسرة والأهل وأصدقاء الفقيد العزيز، الذي أوجعني رحيله .
(انا لله وانا اليه راجعون)
لندن-٣ يونيو ٢٠٢١
رحمها الله رحمة واسعة واسكنها الفردوس الأعلى