لم أصدق عيني حين وقعتا على صورتين لصفحتي جريدة اسمها (قدس)، يقال إنها تتبع لمليشيا حميدتي ” الدعم السريع”، بصفحة صديقي الدكتور فيصل عوض على الفيس بوك.
ومن شدة هول ما رأيت قلت لصديقي فيصل “قول لي ده فوتوشوب منك” ياخ”، فلم يكن من السهل تصديق حقيقة أننا وصلنا هذا الدرك السحيق والمستوى غير المسبوق من الابتذال.
فقد كُتب في المانشيت الرئيس للصحيفة التي لا أعلم كيف ولماذا أُختير لها اسم (قدس) ” الشعب يهتف حميدتي معانا ما همانا” وتلاه مانشيت ثاني يُقرأ ” دقلو يتكفل بمشروع مياه منطقة ودعة”.
كما تضمنت ذات الصفحة الأولى ثلاث صوراً للقائد (الملهم) حميدتي رافقت ثلاثة أخبار عنه تقول “حميدتي: أنا الوحيد الاعترضت على فض الاعتصام”، ” من هنا نبدأ عهد الوحدة والعدالة والبناء: كما قالها الفريق أول محمد حمدان دقلو”، إضافة لما ورد في المانشيت الرئيس ” الشعب يهتف حميدتي معانا ما همانا”.
أما عند مطالعة ما ورد في الصفحة الأخيرة لصحيفة ” قدس” الالكترونية فقد احتجت لأن أفرك عيني أكثر من مرة، حيث كتب الصحافي الرياضي صاحب زاوية ” رفيق الكلمة” الزميل نادر عطا، رئيس تحرير الصحيفة المعنية زاوية بعنوان ” حميدتي: لا كرامة لنبي في قومه”، فيما كتب آخر زاويته بعنوان “حميدتي أمل الأمة” وخط يراع كاتبة لا أذكر اسمها مقالاً بعنوان ” رسالة مفتوحة للقائد حميدتي” وكتبت زميلة ثانية زاويتها بعنوان ” حميدتي جسر الأمان الانتقالي”، فيما طالعت في أسفل الصفحة الأخيرة مقالاً حمل العنوان ” قدس: يد تبني ويد تحمي”.
ولعلك عزيزي القاريء قد لاحظت أن أخيرة الصحيفة حملت خمس زوايا لم يخلو سوى عنوان واحدة منها فقط من اسم حميدتي، فأي حضيض بلغناه بالله عليكم!
الزواية الوحيدة التي لا تحمل اسم الفريق خلا هي زواية من بدا أصغر سناً بين جميع كتاب الصفحة الأخيرة، ولهذا نشكر الفتى على مراعاته لصحتنا ومشاعرنا، ولو أن المقال من عنوانه لا يبدو بعيداً عن السياق الذي حام حوله معظم كتاب الرأي في الصحيفة (المُقرفة).
(كل ما نقول قربنا للخلاص تلقانا بادين من الألف).
ظللت على قناعة راسخة طوال العقدين الماضيين بأن أهم أسباب غوصنا في الوحل هو افتقارنا لصحافة حرة ونزيهة وصادقة.
ولم نصدق أن شعبنا قد تخلص (جزئياً) من أولئك المجرمين الفاسدين، فمنينا أنفسنا بصحافة حرة وشجاعة وراشدة تواكب شعار ” ثورة الوعي” الذي ضحى من أجله خيرة شباب الوطن بأرواحهم الغالية، لكن للأسف هناك دائماً من يحاولون جرنا للوراء.
لا أصدق أن هناك أناساً يمكن أن يتجردوا من الحد الأدنى لمشاعر البشر الطبيعيين لدرجة استرخاص الدماء والأرواح بهذا الشكل المُفزع.
كلما أتذكر بطلاً مثل عباس فرح وهو يموت واقفاً كنخلة باسقة وأرى ما أرى وأطالع ما تتحفنا به صحافة (السجم) أحس بغصة في الحلق.
كل ما ذكرته أعلاه يُكتب في حميدتي فريق (الخلا) الذي قتلت قواته الآلاف من السودانيين وحرقت القرى وشردت أهلها وكانت شريكاً أصيلاً في فض اعتصام القيادة بتلك الصورة البشعة!
شيء لا يصدق والله.
يريدون بلا أدنى خجل تسويق أحد أدوات الكيزان في القتل والحرق والفساد كقائد ورمز في سودان ما بعد الثورة، لكن كيف للسودانيين أن ينسوا للمجرمين كل كبائرهم التي ارتكبوها في حق الوطن ومواطنه لمجرد أن ثلة من الصحافيين باعوا أقلامهم بأثمانِ زهيدة وراحوا يزينون الباطل ويمارسون الكذب الصراح من أجل إرضاء ولي نعمة هنا أو هناك.
رئيس تحرير الصحيفة الذي كتب مقاله في أخيرتها بعنوان ” حميدتي لا كرامة لنبي في قومه”، كان قد دعا الأهلة قبل يومين لتسيير مليونية دفاعاً عن رئيس لجنة (التطبيع) السوباط في وجه اتهامات لجنة إزالة التمكين له، ويبدو أنني لم أكن مخطئاً حين كتبت مقالي المُعنون ” هلالاب نعم لكن الوطن أولاً” الذي دعوت فيه إلى انفاذ القانون وعدم محاولة الدفاع عن أشخاص لا نملك أدلة براءتهم مثلما لا نملك ما يسند الاتهامات الموجه لهم.
فمثل هؤلاء الزملاء يحاولون دائماً جر الجماهير لخدمة أغراض لا علاقة لها بالكيانات التي يتظاهرون بالحرص عليها والدفاع المستميت عنها، وإلا فكيف يدافع كاتب مثل نادر عطا عن حميدتي الذي شهد الداني والقاصي على جرائم مليشيته!!
” حميدتي نبي في قومه” يا نادر عطا!! يا لأسفنا على حال صحافتنا.
لعنة الله على الكيزان الذين أدخلوا في هذا البلد ثقافة كهذه حتى صارت لنا (مدارس) صحفية متخصصة في التضليل والتدليس.
لكن عشمنا كبير في أن تواجه الأقلام الجادة النزيهة مثل هذا الغثاء الذي ما زال يندلق عبر العديد من صحفنا حتى نحمي شعبنا من لوثة الأدمغة ونزود عن ثورة الوعي التي نتطلع لاكتمالها ونقف في وجه كل من يسترخص دماء شهداء الوطن الأوفياء الأبطال الذين قدموا دروساً في حب الوطن لم يستفد منها البعض للأسف الشديد.
وأرجو أن يعذرنا الزملاء الذين يتماهون مع القتلة والمجرمين والمفسدين إن قسونا عليهم، فلا مجال للمجاملة في أمور كهذه، لأننا لا يفترض أن نسمح بتغيير في الأسماء، وتبادل الأدوار فقط مع استمرار النهج الذي ساهم في إطالة أمد الظلم والفساد في هذا البلد طوال العقود الماضية.