انتشرت التروس الثورية مباشرة بعد قرار زيادة المحروقات، واستغرب الجميع، فالتروس ابتدعت كوسيلة لمنع الكجر من دخول الأحياء، ونجحت نجاحا باهرا في ذلك، فما هي حاجتها الآن؟ ليس هناك حاجة، فالسلطة الراهنة لا تمنع الاحتجاج ولا تطلق جهاز أمنها ليعتقل المحتجين ويعذبهم، ولا تصادر صحيفة، ولا تغلق دار حزب سياسي، هي حكومة بكل المقاييس لا تستخدم القوة، والتفلتات الأمنية التي ظهرت نتيجة للظروف الاقتصادية الخانقة، سببها انكماش دور الأجهزة الأمنية التي تعودت ٣٠ سنة على القمع والسحق للمحتجين بكل ادوات القوة البسيطة والمميتة بدون ان يسالهم احد، بينما أصبحوا اليوم يحاكمون بالإعدام في حالة التجاوز واستخدام القوة المفرطة، وهذا بالضبط ما اربك الأجهزة الأمنية وجعلها بطيئة التحرك وضعيفة الاستجابة، وهو موضوع عده الكثيرون تواطوء عسكري بينما هو في الحقيقة ارتباك نتيجة التغيير الكبير الذي حدث في مدى سلطة الأجهزة العسكرية وحدود مسؤلياتها، وهذا جانب مهم يجب ان ينتبه له الناس حتى لا يكون هجومهم على الأجهزة العسكرية سببا آخرا لزيادة بطئها وضعف استجابتها.
يجب أن ننتبه إلى ان التغيير الذي حدث نتيجة الثورة، ليس تغييرا بسيطا وإنما تغييرا عميقا ومؤثرا، وهذا يستوجب من الجميع ان يشاركوا في انضاج هذا التغيير حتى يواصل تطوره وصولا إلى دولة الحريات والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، ليس صوابا الاستهانة بالمكاسب التي حققتها الثورة على صعيد بناء الحرية والسلام والعمل على بناء الديمقراطية في المستقبل، لا يمكن انكار الفشل الاقتصادي، ولكن معالجة الانهيار الاقتصادي بإسقاط هذه الحكومة لن يعني سوى العودة مجددا للشمولية ووقتها لن نجد لا اقتصاد ولا حريات، فلينتبه الجميع، ولتعمل جميع الأطراف على تحويل الممارسة الثورية في البلاد إلى ممارسة سياسية، تحويل التروس من الشوارع إلى المؤسسات، تحويل المنظومات الثورية إلى منظومات سياسية، (فالجوطة) الراهنة الآن واختلاط حابل الثوري بنابل السياسي لا يوفر بيئة معافاة تساعد على بناء الوطن ولا على اخراجه من الأزمات الاقتصادية.
الأحزاب السياسية يجب أن تنصرف إلى تطوير ذاتها وخطابها، والعمل مع بعضها البعض على تجاوز الخلافات والتركيز على نقاط الاتفاق والبناء عليها والمضي بها نحو دعم التحول الراهن، هذا التحول في نفسه فرصة تاريخية لجميع الأحزاب السياسية من أجل أن تؤسس وطنا ديمقراطيا تسود فيه حرية العمل السياسي، أي تراجع لهذه الفرصة لن يقود سوى إلى حكم شمولي جديد يمنع هذه الأحزاب من التنفس ويدخلها في دوامة الاعتقالات والمصادرة والمنع من الممارسة السياسية، لذلك فالأحزاب جميعها داخل الحكومة وخارجها، ذات مصلحة من استمرار ونجاح حكومة الثورة الراهنة ودولتها، وليس هناك أي مصلحة في اسقاطها.
الثوار يجب أن يتجهوا نحو العمل السياسي وليس الثوري، فالقيام بثورة جديدة لن يفيد في شيء سوى تأخير الزمن وتعطيل الوطن سنينا أخرى عن التنمية والتطور والديمقراطية وسيدفع الجميع ثمن هذا التأخير انهيارا اقتصاديا وأخلاقيا وربما حروب وفوضى، لذلك الافضل الاتجاه نحو العمل السياسي، والمقصود هو التنظيم، لجان المقاومة عليها ان تنظم نفسها بشكل سياسي، ان تخرج من دور المنظومات الثورية الى دور المنظومات السياسية، بقاء اللجان في الثوب الثوري لن يشركها في أي فعل سياسي حقيقي كالحكم وذلك لتعذر توصيفها سياسيا وقانونيا، لماذا لا تقيم اللجان مؤتمرا عاما؟ كل ولاية تعقد لجانها مؤتمرا عاما، وتخرج برؤى ومواثيق سياسية وتختار هيكلة رسمية مسؤلة امامها وتتحدث باسمها، فتتحول بذلك لجان المقاومة إلى قوى جديدة في الميدان السياسي مثلها مثل الأحزاب السياسية والنقابات، هذا التنظيم سينقل اللجان من الشارع إلى المؤسسات، وسيجعلها قادرة على المشاركة في الفعل السياسي، فالعقبة التي تواجه كل من يريد التعامل مع لجان المقاومة سواء كان حكومة أو منظمة أو غيره هو عدم وجود قيادة مهيكلة وموحدة لهذه اللجان وعدم وجود برنامج عمل ووثائق علمية وموضوعية معروفة ومنشورة لها.
تجمعي المهنيين الاثنين، عليهما ان يتحولا إلى جسم سياسي حديث منفصل عن قضية المهنيين واسمهم، سواء كان هذا بتحولهم إلى حزبا سياسي او منظمة مجتمع مدني قانونية ومسجلة، أو عليهما ان ينصرفا إلى بناء النقابات المهنية وتسليم القيادة لمن يختارهم المهنيون من النقابات المنشأة حسب القانون، فالاستمرار بهذا الشكل سيكون ايضا خصما على الطبيعة السياسية للدولة المفترض أن ينظمها القانون.
الحياة السياسية في السودان الآن (جايطة) ويتداخل فيها السياسي مع النقابي مع العسكري، وهي صورة شائهة جدا للدولة، يصعب او يستحيل أن ينظمها قانون واحد، كما لا يمكن أن تنتج دولة بهذا الشكل اي تطور ملموس او سريع يخرج البلاد من حالة الاحتقان والتضارب والربكة.
يوسف السندي
sondy25@gmail.com