كيف يصبح المرء “رويبضة” ؟
د . جمال الشاعر
لاعبو الكرة يحدثوننا عن قيم الزواج
.. ومطربو المهرجانات يعلموننا كيف ننجح
.. وشيفات المطابخ يفتون فى كل شئ …
التريند هو شعار المرحلة .. ولا عزاء للحكماء
.. الفيلسوف الفرنسى بيير بورديو يقول “إن الفاعلين المسيطرين مؤخرا أصبح
بإمكانهم فرض منتجاتهم الثقافية وذوقهم الفني .. مثلا طريقة جلوسهم أو ضحكهم
وما إلى ذلك .. إلى جانب قدرتهم الفذة على حجب تعسف هذه المنتجات الفكرية
والاستهلاكية وبالتالي القدرة على إظهارها على أنها شرعية ومفيدة جدا ”
.. كيف وصلنا إلى هذه اللخبطة ؟ وماالذى مكن الهواة وجعلهم قادة للرأى العام ؟
ولماذا أصبح الميديوكر أو الروبيضة أو الشخص نصف الموهوب مسيطرا على كل “المنصات”
إلى هذه الدرجة ؟ عندنا مثل شعبى لطيف يقول “القوالب نامت والأنصاص قامت” ماهى
الأسباب؟ السبب بوضوح هو سيطرة عقلية البيزنس والإعلانات من أجل جنى المزيد من الأموال مع غياب رؤية استيراتيجية متماسكة وعميقة لتقديم البديل المحترم .. لقد كانت احتفالية نقل المومياوات إلى متحف الحضارة لحظة كاشفة .. عرفنا منها مرة أخرى أن
ماكان يقدم لنا من فنون هابطة قبلها إن هى إلا مجرد تفاهات لذيذة ..
والدكتور على الراعى الإعلامى والناقد المرموق كان عنده تعبير صادم فى هذا الشأن
يحمل تحذيرا شديد اللهجة عن ضعف وركاكة المحتوى الفكرى والإبداعى ..
كان يقول للأسف الشديد يعتقد البعض أن الإعلام هو مهنة التفاهات اللذيذة ..
هوس اللايكات الذى نراه الآن يؤكد لنا كلامه
.. وكأن الهدف من صناعة المحتوى الإعلامى أصبح هو جلب المزيد من الفلوس ..
.. والشهرة الذائعة هى الوسيلة .. فلم يعد أحد يستمع هذه الأيام إلى العلماء ولا إلى
الفقهاء ولا إلى الأدباء .. ولم يعد أمام أى مبدع أو عبقرى إلا أن يشجع نفسه ذاتيا
كما كان الشاعر البحترى يفعل .. كان يصفق لنفسه إذا لم يجد من يستحسن أشعاره ..
وكان يقول لنفسه ضاحكا أحسنت والله يابحترى .. الأزمة ليست محلية .. الأزمة عالمية
.. ثقافة التيكى ويكى والقص واللزق تسيطر على كل المنصات بلا رحمة
ولا هوادة .. والفلاحيص الجهلاء يتحدثون بثقة عمياء فى كل مناحى الحياة .. والوقحون
الصلفاء يتفحشون بجلافة واستهار عظيمين .. صدق سيدنا عمر بن الخطاب حين قال
.. اللهم إن أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة .. وفى محاولة لفهم الأسباب وراء تردى الأذواق والأفهام يؤكد عالم الاجتماع الشهير “ماكس فيبر” في كتابه “العلم بوصفه حرفة “
، أن المبالغة في خلق التخصصات الجامعية الدقيقة تسببت في تفشى التفاهة، لأن غياب الفلسفة أوجد فقرا فكريا عميقا، فمع دعاوى التخصص أخذت الفلسفة تبتعد عن العلوم والمعارف، وعندما مشت الجامعات في طريق التخصص الدقيق أصبحت تتلقى التمويل من الشركات التجارية، وأصبح الأساتذة والطلاب يعملون على مشاريع الشركات، وأنتجت الجامعة خبراء ذوي تخصصات دقيقة تخدم السوق، ولم تنتج علماء من ذوي الأفق الواسع القادر على مواجهة مشكلات الحياة .. والخبير بطبيعته ممثل للسلطة وينتج أفكاره مقابل الحصول على المنافع المادية .. وعلاقته بالعلم قائمة على المصلحة والمنفعة، أما العالم والمثقف فهو حالة تحركها دوافع أخلاقية ونضالية وفلسفية وإنسانية .. كذلك فإن المغالاة في التخصص أوجدت
تخصصات لا جدوى فيها ولا منها، وهكذا غابت فكرة الإحاطة العلمية وقيم التفكير العلمى المنهجى الشامل .. و“ الجشتالطتى” الذى يعيد تجميع وتركيب أجزاء العالم المبعثرة والمفككة .. ماهى خطورة شيوع نمط الروبيضة؟
.. أولا إصابة الكفاءات بالإحباط ثم بالعزلة والانكفاء
على الذات ومن ثم تتدهور الأمور وتدخل الشعوب فى عصور الإضمحلال والتخلف ..
والحديث الشريف يقول “يأتِي على الناسِ سنواتٌ خدّاعاتٌ؛ يُصدَّقُ فيها الكاذِبُ، ويُكذَّبُ فيها الصادِقُ، ويُؤتَمَنُ فيها الخائِنُ، ويخَوَّنُ فيها الأمينُ، وينطِقُ فيها الرُّويْبِضَةُ. قِيلَ: وما الرُّويْبِضةُ؟ قال: الرجُلُ التّافِهُ يتَكلَّمُ في أمرِ العامة “
.. وها نحن نرى النموذج يتكاثر على الشاشات وفى الإذاعات وعلى الفيسبوك واليوتيوب
وتوتير وهلمه جرا .. حتى وصلنا إلى أن شخصية “الزلنطحى” أصبحت هى التريند ..
شخص زئبقى حلزونى إنكشارى لامبالى إلا بمصلحته .. يتملص من أية أعباء أو ألتزامات ولايمكنك أن تطمئن إلى أفعاله .. ومع ذلك فهو يبرع فى اختطاف كل الفرص ويتملق
ويدعى أنه الأجدر لأنه حارس بوابة الولاء .. وينصحنا الكاتب “ ألان دونو ” أن نتوقف عن
جعل الأغبياء مشهورين لأن فى ذلك جناية على الأجيال الناشئة وتسطيحا لعقولهم ..
.. أخيرا .. الرويبضة يعرف أن الوصفة سهلة جدا لكى يصبح تافها عظيما
.. شوية بهرجة وابتذال على صوت عالى على طجرمة على وش مكشوف
لايعرف الكسوف .. وبقية التحابيش عبارة عن توهان فى الكلام على طريقة الهرى والجرى
فى تفاصيل ومتاهات تؤدى إلى لاشئ ..
.. (منشورة بالأهرام ١١ يونيه ٢٠٢١)تحت عنوان كيف يصبح المرء “ميديوكر” ؟