في معرض تعليقه على توصيف الإمام الصادق المهدي للحظة ميلاده بطريقة فيها شيء من الأسطرة ، يقول الأديب الراحل الطيب صالح كما نقل عنه الأستاذ المحبوب عبد السلام : (هؤلاء الناس ولدوا في بيئة مليئة بالميثلوجيا)..
على منوال أديبنا الطيب الصالح أقول :
انا من جيل ولد في حياة مليئة بميثولوجيا أبرز رموزها الإمام الراحل ، كنت ومازلت لا أستطيع تخيل مشهد السياسة والثقافة والاجتماع دون تصدر صورة الإمام لواجهته.
كان الإمام إستثنائياً بالمعنى الممتلئ للكلمة ، وحاضراً في كل تفصيلات حياة السودانيين ، كان إستثنائيا ومبدعاً في نجاحاته وإخفاقاته ، كان إستثنائيا في قدرته على جمع المتناقضات بلا تعارض ، فهو الوطني المنفتح على العالم والإشتراكي المؤمن بالحريات وفقاً للقاموس الليبرالي ، وهو الإمام حامل لواء ووارث ارث أكثر الثورات راديكالية في التاريخ المعاصر وفي نفس الوقت منظر الوسطية وداعية حوار الحضارات ، وهو كذلك السياسي الذي يقرأ الفلسفة والأدب ويستمع بحس مرهف للموسيقى.
قبل إعتقالي بأيام شاهدته وهو يعلق بلسان الناقد الفني على التجربة الغنائية لمطرب الطمبور محمد النصري وقبل سنوات كنت حضوراً في حشد استعراضي حول كتيب (شبه فكري) بفندق كورنثيا كان الإمام أحد مدعوييه ، لكن يبدو أنه قرأ وقيم الكتيب فاكتفى بكتابه تعليقه في ورقة أرسل من يتلوها بالإنابة عنه ، عندما تم توزيع ورقة الإمام ، قرأتها على عجالة وقلت لمن يجاورني في المجلس لو قرأت هذه الورقة دون سابق معرفة بكاتبها وإنشغالاته سيتبادر لذهنك أنه اكاديمي منقطع للبحث الفلسفي.
عن أبوة الإمام :
في شهر مارس من العام ٢٠١٢ كلفتني لجنة طلاب جامعة الخرطوم القائمة على الحراك السياسي بالجامعة بكلمة الطلاب في ندوة عُقدت بدار حزب الأمة حول الحريات ، وعلى غير معهود العادة كانت كلمتي بعد مداخلة الإمام ، اذكر وانا في طريقي لمنصة الندوة همس لي أحد قادة السلطة الحاليين قائلا : ( عليك الله اركب لينا الإمام دا ) عندما أعتليت المنصة ، تحدثت بلسان حديثو العهد بالسياسة وتطاولت على شخص ومواقف الإمام في حضرة أنصاره ، الأمر الذي نال إمتعاضهم وانتباهته ، عند إنتهاء كلمتي ونزولي من منصة الندوة قام الإمام من مقعده وأستقبلني وطبع قبلة على رأسي لن أنساها ما حييت ، حينها هدأت ثائرة الأنصار.
عن تواضع الإمام :
في نفس العام عندما تكاثفت الأحداث وتفاظعت أفاعيل النظام بالحركة الطلابية ، وتفاقم الأمر لدرجة لم نعد نستطيع معها مجاراة وإحتمال وطأة عنف السلطة ، حينها قصدت بيت الإمام طالبا المشورة والرأي (وهي عادة درجت عليها كلما ألمت بي الخطوب) ، أذكر عندما دخلت عليه رفقة بعض النشطاء الطلابيين وجدته يرأس إجتماعاً لهيئة قيادية بحزب الأمة ، رحب بنا عند باب القاعة وأجلسني بالقرب منه وتصدى لتقديم ضيافتنا بيديه ، حينها طرحت على نفسي سؤال مازال قائماً :
لماذا فعل مافعل وهو من هو؟
عن أدب الامام :
في أغسطس من العام ٢٠١٧ عُقدت ندوة بقاعة إتحاد المصارف عن حال الأمة كان الإمام متحدثها الرئيس ، عندما مُنحت الفرصة للتعليق وطرح الأسئلة ، تحدثت بلغة متحمسة وخاشنت الإمام (بطريقة روشاء ما زلت نادم عليها) ، عندما اُعيد المايك للإمام كان بإمكانه أن يسخر من مداختلي المتحمسة المليئة بالثقوب كما يفعل معظم الساسة ، لكنه لم يفعل وعند الإنتهاء من تعليقه وعدني بإرسال مجموعة من كتاباته (لعله أستشعر حاجتي للمزيد من القراءة) ، بعدها بيومين هاتفني رئيس هيئة شؤون الأنصار الحالي الدكتور عبد المحمود أبوه ، طالباً حضوري إلى مقر الهيئة لإستلام وصية الإمام .
عن وطنية الإمام :
كان الإمام أحرص الناس على وحدة السودان وتماسك مجتمعه ، فهو أول من بادر بقبول دعوة رأس نظام مايو للحوار بالرغم عن فظاعات الأخير بحق أسرة الإمام من تقتيل وتشريد ومصادرة ممتلكات ، لكن عندما وهن عظم مايو وبلغ منها الكبر ما بلغ وتضاءلت قدرتها على الإستمرار والتماسك ، قبل الإمام بمبادرة لقاء بورتسودان الشهيرة التي تمخضت عنها المصالحة الوطنية في العام 1977 .
وكذلك فعل مع الإنقاذ بعدما أستنفدت شعاراتها وتناقصت فرصها في الإستمرار ، قبل دعوتها للحوار الوطني وهي التي غيبته عن العالم سنيين عددا وعن الوطن مثلها ، قبل دعوة الحوار الوطني ولم يقل للبشير وأعوانه (فلترق منا الدماء أو ترق كل الدماء) ولم يهددهم (بمسح حد السيف بحد اللحية) بل قال كلمات من النوع التي تجعل سادتها خالدون قال : (من فش غبينتو خرب مدينتو) ..
حكم الإمام السودان مرتين لم يمنع شخص حقه في المواطنة والكلام والفعل ولم يعتقل صاحب رأي مخالف وموقف معارض ، بل وهو في قمة مجده وسلطانه كان يدعو للحوار والتدافع السلمي حول إدارة شأن البلاد.
للإمام مئات المساهمات الفكرية من كتب وأوراق ومذكرات لكن لم نعرف عنه إصطناع الندرة والإمتناع عن مجالسة ومناقشة الناس كما يفعل أنصاف المثقفين .
رحل الإمام وترك لنا متسع من التجربة والعبرة وفينا فراغاً لا يمكن تلافيه ، رحل الإمام وبرحيله أنقضت حقبة القادة المثقفين وبدأت فترة صغار الكتبة والموظفين .
رحل العندو لي كل ود فراش تقدير
ماصع ديما طول ليلو ونهار هدير
رجلوا تقيلة في كبد المحاصات حارنة
أياهو جبارة العامة البراشي عمارنا
إن كان من مناشدة بين يدي هذه الكلمات فهي دعوة لتلاميذ وأحباب الإمام بإنشاء مركز دراسات وأبحاث يحمل إسمه ويعنى بالقضايا التي كانت مدار إهتمامه.
رحم الله الإمام الصادق المهدي وألهم آله الصبر والسلوان.
قسم المقرن
أبريل ٢٠٢١