إن دعم الوقود والخبز، دعماً عاماً غير موجّهٍ ولا مُرشّد، هو الذي أفقر الدولة، وزاد الأغنياء غنىً، وأورث الاتكّال والتقاعس لدى فئات كثيرة من المواطنين القادرين على الكسب والعمل.
وليعلم الأهل الأحباب في السودان أن العملة الصعبة التي تدعم بها الدولة الوقود والخبز إما أن يكون مصدرها عائد الصادر، وكان الأولى أن تذهب للصحة والتعليم والشرطة والبنية التحتية والتنمية، وإما أن يكون مصدرها ديون مشروطة، تثقل كاهل الأجيال المقبلة، أو معونات مُذّلة تجعل مسؤولينا يركبون الطائرات ذاهبين لأداء فروض الولاء والطاعة لأراذل الطغاة في المنطقة والعالم.
وقد دأبت الحكومات السابقة على دعم الخبز والوقود كرشوة للمواطنين حتى لا يخرجوا غاضين إلى الشوارع. فأصبحت الحكومة راشية وأصبح المواطن، في واقع الأمر، مرتشياً يأكل سحتاً تقدمه له الحكومة وهو لا يعلم من أين جاء. وبلغت البجاحة في طلب الرشوة والإصرار عليها أن تبلور شعار: رفع الدعم خط أحمر!
وازدادت معدلات ذلك الدعم، بسبب إصرار الناس عليه، حتى أصبح الوقود في السودان من أرخص الوقود في العالم، لا ينافسه إلا الوقود في فنزويلا؛ وأصبح الخبز الأبيض من الرخص بحيث تستطيع بما يعادل دولاراً واحداً أن تشتري مئة قرصاً من الخبز. ولو كان الخبز بذلك الرخص في أمريكا وأوروبا لوقف الأمريكان والأوروبيون صفوفاً في انتظاره.
وكثيرٌ من السودانين لا يعلمون أن الخبز والوقود غير مدعومين في البلدان من حولنا، فانتعش التهريب، وأصبحت الدولة السودانية تطعم ليس فقط شعبها بل أيضاً شعوب البلدان المجاورة.
قلنا: الفقير في السودان يأكل الدعم، وكذلك الغني؛ فأتخم الغني، وتكاسل القادرون على العمل وتواكلوا!
حدث كل ذلك على حساب قوة الدولة ومنعتها وهيبتها.
فهزلت مؤسساتها ودواوينها، ولم تعد قادرة على دعم الصحة والتعليم ولا الاضطلاع بالتنمية، وساءت أحوال العاملين فيها فغادروا أو هاجروا، أو فسدوا، اضطراراً أو طمعاً.
نعم، من واجب الدولة أن تدعم المواطن. لكن يجب أن يوجّه ذلك الدعم للضعيف، المحتاج، غير القادر على العمل، لا إلى الأغنياء ولا الكسالى، ولا المتكاسلين “المُتَكِلّين في الشوارع وعند ستات الشاي”.
إن أفظع شيء أن يأكل المرء ولا يدري مصدر لقمته.
وربّ آكل لا يعلم أنه يأكل مرضاً ومذلة.
لقد نزع الله البركة من الخبز والوقود، المدعومين بمال السحت، فلم نعد أبداً نشبع لا من خبز ولا من وقود، فتطاولت الصفوف، ولم تكد نتتهي أزمة حتى تتجدد أزمة أخرى.
مرة أخرى: ليعلم الأهل الأحباب في السودان أنّ كل غني وكل قادر يأكل خبزا مدعوماً فإنما يأكل سحتاً ويطعم أولاده سحتاً، وكان الأجدر به أن يسأل من أين جاء هذا الدعم، وهل هو يستحق ذلك الدعم أم لا.
الآن وقد قررت الحكومة رفع الدعم الجزافي عن الوقود فقد أحسنت صنعاً.
وهذا قرار شجاع جَبُنَتْ عن اتخاذه سائر الحكومات السابقة. ونأمل أن تتخذ الحكومة في الوقت المناسب قراراً مدروساً برفع الدعم الجزافي عن الخبز أيضاً.
بهذا القرار سيذهب الدعم الآن إلى مستحقيه: المرضى والعجزة، لا إلى الأغنياء ولا إلى الكسالي.
سيذهب الدعم الآن إلى بناء الدولة ذات المنعة والهيبة: إلى الصحة والتعليم والأمن والتنمية. وسوف تستطيع الدولة أن تعيد الاعتبار لموظفيها، فلا يضعف الشرطي أمام الرشوة، ولا يضطر الموظف للعمل سمساراً أثناء الدوام الرسمي.
سينتهي الدعم الاعتباطي، ليبدأ الدعم المرشّد، حيث لن تعود الدولة تبيع شرفها لتطعم شعبها وتخدره بالخبز والوقود المدعومين.
سينتهي ذلك الدعم الذي لا يعرف الكثيرون أنّ بسببه هان السودان، وهان السودانيون، وهان جواز السفر السوداني في كل مكان.