أود أن أتحدث إليكم اليوم عن القرارات الاقتصادية الأخيرة، وما أعقبها من تطورات، وكذلك تناول بعض القضايا التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه الأزمة.
أبدأ بالقول إنني أعي تماماً حقيقة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي تمر بها بلادنا؛ أعرف أن هنالك من يحاول الإيحاء بأننا نعيش في برجٍ عاجي، وربما مرده ذلك أنني لم اعتد على التحدث كثيراً أو الظهور في كل وقت، فمنهجي أن أترك للسياسات والقرارات أن تتحدث.
سأبدأ بالوضع الاقتصادي في البلاد:
لقد شرحنا حقيقة الوضع الاقتصادي منذ اليوم الأول، وبأننا استلمنا خزينةً فارغة، وديوناً مهلكة وحالة حصار سياسي واقتصادي، فقد كان اقتصادنا يعاني من خللٍ هيكلي، لم نخفِ المعلومات عن الناس، ولا ينبغي، ولم نحاول أن نقدم للناس صورةً زاهيةً ووردية. وفى هذه الأثناء اجتاحت بلادنا والعالم جائحة كورونا التي تسببت في كسادٍ اقتصادي عالمي وانخفضت إيرادات الحكومة بنسبة 40%.
“”
لم يكن أمامنا خيار غير تبنى برنامج للإصلاح الاقتصادي، فهو خيارنا الوحيد، الذي لم يفرضه علينا أحد أو تُصرُّ عليه جهة، ولسنا مرغمين على ذلك، لكنه الخيار الواعي الذي وجدنا أنه كفيل بإصلاح الوضع الاقتصادي، ونعلم قسوته وصعوبته، لكنه كان الدواء الوحيد لمثل ظروفنا وواقعنا.
رغم كل هذا دعوني أقول أن هنالك ضوء في آخر النفق .. هذا الدواء ليس فعلاً معزولاً بل هو جزء من تصور عام عملنا عليه منذ يومنا الأول الذي كُلفنا فيه بهذا الموقع قبل ما يزيد قليلاً عن العام والنصف .. تصورنا قام على تنفيذ مهام المرحلة الانتقالية وأعباء الإصلاح الشامل على مراحل سرنا فيها رغم الصعاب بصبر وأناة .. مراحل خطتنا إنبنت على الخطوات التالية:
أولاً: وقف الحرب وتحقيق السلام بما يوسع قاعدة الانتقال ويمتنه ويوفر فرصاً أفضل للبلاد لتوجيه طاقاتها نحو البناء عوضاً عن الصراع … بدأنا ذلك منذ الشهر الأول لنا في أكتوبر 2019 وسرنا رحلة طويلة استمرت لعام حتى وقعنا اتفاق جوبا لسلام السودان في أكتوبر 2020 ولا زلنا نواصل المشوار لاستكمال المرحلة الثانية مع من تبقى من قوى الكفاح المسلح.
ثانياً: فك العزلة الدولية عن السودان وإنهاء العقوبات والحصار الذي كبل امكانياتنا الوطنية … بدأنا هذا المشوار منذ زيارتي الأولى للولايات المتحدة الامريكية والتي خاطبت فيها الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2019 ومن ثم انخرطنا في تفاوض شاق ومكلف .. تكلل بالنجاح في خروجنا من القائمة في ديسمبر 2020 بعد 15 شهراً من العمل الدؤوب الذي شارك فيه رجال ونساء كثر لم يدخروا جهداً من أجل رفعة وخلاص هذا الوطن الحبيب.
ثالثاً: إعادة هيكلة الاقتصاد السوداني المثقل بالتشوهات، عبر تخليصه من الديون ومراجعة المصروفات والايرادات لتقليل العجز الكبير في ميزان المدفوعات .. استلزم هذا الأمر التفاوض مع المؤسسات المالية الدولية وتكلل باتفاق في يونيو 2020 بموجبه دخلنا في برنامج مدته عام ينتهي في الثلاثين من يونيو الجاري .. بنهاية هذا البرنامج سيكون السودان مؤهلاً لإعفاء ديونه المتراكمة ويكون اقتصاده قد وضع على قاعدة صلبة للانطلاق.
رابعاً:.. مرحلة توجيه الطاقات نحو الإنتاج وتوجيه الموارد وهي المرحلة التي نستشرفها الآن .. حققنا هذا العام إنتاجية غير مسبوقة في القمح المحلي ووفرنا عن طريق انشاء محفظة زراعية موارد محلية لتمويل الموسمين الزراعيين الصيفي والشتوي وعبر اتفاق مع البنك الدولي وفرنا منحة للسودان بمبلغ 2 مليار دولار ستوظف في مشاريع حددناها في الطاقة والطرق والزراعة ومياه الشرب والتعليم والصحة ستتوالى تباعاً خلال العامين القادمين.
فيما يخص الواقع الآن وآثار المرحلة الحالية من المعالجات الهيكلية لاقتصادنا وضعنا عدداً من التدابير والمعالجات لتخفيف آثار هذه الإجراءات منها أن ابتدرنا برامج الدعم الاجتماعي، برنامج الدعم الأسري ثمرات، وهو معني بتقديم دعم نقدي مباشر لملايين المواطنين.
ومما يجب ذكره أن لدى برنامج ثمرات رصيداً يقدر بحوالي 820 مليون دولار تمَّ استخدام 15% منها حتى الآن. وهنا نعترف أن هناك خللاً إدارياً في قاعدة المعلومات أعاق هذا العمل الكبير، ونحن نعمل على معالجته مع جميع الجهات المعنية.
يشمل هذا البرنامج ستة ملايين وخمسمائة ألف أسرة – أي حوالي 80% من الأسر السودانية، حتى الآن اكتملت بيانات 700 ألف أسرة، وسيشمل كل العاملين بالدولة، ومن المتوقع أن يرتفع الدعم المقدم لهذا البرنامج إلى 2 مليار دولار. أرجو من كل بنات وأبناء شعبنا المسارعة للتسجيل في هذا البرنامج وتلقي الدعم المالي المباشر الذي يساهم في تخفيف أعباء الحياة عليهم إلى حين عبور بلادنا من هذه المرحلة.
وهناك كذلك برنامج (سلعتي) لتقديم المواد التموينية بسعر المصنع عبر قنوات الأحياء وأماكن العمل. وهنا اتّخذت الحكومة قرارات بإجراءات إضافية تساهم في توسيع مظلته حتى يصل للناس في ظل هذه الظروف، بجانب دعمه بموارد أخرى لتوفير السلع الضرورية بأسعار معقولة.
وفى هذا الإطار نؤكد استمرار دعم الحكومة للعديد من السلع والخدمات الضرورية، منها الكهرباء والدقيق وغاز الطبخ والأدوية. وقد انشأنا غرفة للسلع الاستراتيجية وضعت خطة امداد مستقر للستة أشهر القادمة وسوف أقوم بالإشراف المباشر على الخطة الإسعافية هذه، وسأعلن أيضاً عن قرارات تفصيلية أخرى خلال الأسبوعين القادمين لتنفيذ بنود الخطة الإسعافية.
كما كانت هناك بدايات مُبشِّرة لعمل الجمعيات التعاونية تعثرت أيضاً، ومن هنا أدعو لجان التغيير والخدمات والشباب للتعاون في الأحياء والقرى والمدن كي يسهموا في تنشيط الجمعيات التعاونية بمناطقهم حتى تعود للتعاونيات مكانتها كمنافذٍ لتيسير وصول السلع الضرورية للمواطنين بشكل مباشر ودون وسطاء أو مضاربين.
يجدُر بنا القول هنا، على أنه وبرغم المصاعب نجد أن هذا الطريق الذي اخترناه أدَّى لنتائج إيجابية وكبيرة، لكننا نعلم أن الثمار الناضجة لهذا العمل تحتاج إلى وقت وجهد، ونحن لن نتوانى في بذل هذا الجهد.
في مايو الماضي انعقد مؤتمر باريس والذي حصدنا منه نتائج كثيرة، منها أنه تمَّ تقديم السودان بوجهه الجديد للمجتمع الدولي، وبدأنا النقاش لتخفيض أو إلغاء الديون حسب برنامج الدول الفقيرة المثقلة بالديون (HIPC ) ، والذي يعُنى بتخفيض ديون هذه الدول.
كما أننا التقينا بالمستثمرين الأجانب، ووقعنا اتفاقات في مجال المعادن والتنقيب عنها، ستشهد الأيام القادمة توقيع اتفاقات عديدة في مجالات مختلفة. من تلك الاتفاقات استثمارات جديدة في النقل والبنى التحتية، الطاقة وتوليد الكهرباء، الزراعة، بناء وإنشاء طرق في مناطق عديدة، ومطارات جديدة، ومجال الاتصالات، والمواصلات بالمدن، خاصة العاصمة القومية. كذلك من المخرجات في ملف الديون تمَّ الالتزام بإعفاء 15.5 مليار دولار من أصل 60 مليار من الدين، وشجعت هذه الخطوة الدول أعضاء نادي باريس للالتزام بالعمل على إعفاء ديونهم البالغة 23 مليار دولار ضمن هذا البرنامج (HIPC )
نحن نعلم أن الحل الحقيقي يكمن في الإنتاج، وتحريك قدرات الريف السوداني وتطوير موارده، فالحل الناجع لبلادنا في الزراعة والثروة الحيوانية، والصناعة التحويلية الناتجة عن ذلك، ونحن نعمل على جذب الاستثمار على ضوء رؤية واضحة وفق الأحزمة الخمسة للتنمية في بلادنا، واستخدام التقنيات الحديثة التي توفر الوقت والجهد والموارد. لكن هذا الأمر يحتاج إلى تمويل، وتمويل كبير جداً، كما تعلمون أنه ليست لدينا موارداً مالية كافية، لذلك سعينا للحصول على التمويل عبر فتح المجال لمؤسسات التمويل الدولية والشراكات وجذب الاستثمارات.
كذلك نعمل على معالجات وإصدار قرارات لإجراء إصلاحات حقيقية في الجهاز المصرفي والجمارك والضرائب وسياساتها، وستحدث إعفاءات جمركية وضريبية على السلع الضرورية ومدخلات الانتاج، والسلع الرأسمالية، وسنفرض ضرائب وجمارك مرتفعة على السلع غير الضرورية. هذا النوع من السياسات سيساعد في توفير السلع الضرورية بأسعار تنافسية، ولن يمنع الحصول على السلع غير الضرورية بقيمتها الحقيقية، كما أنه يشجع الإنتاج المحلى والتوظيف.
المواطنون الكرام،
لقد رأيتم ما آلت إليه الأمور في الأيام الماضية من أجواء تنذر بالفوضى وإدخال البلاد في حالة من الهشاشة الأمنية؛ الحقيقة أن بلادنا مهددة بالدخول في حالة من التشظي والانقسام بسبب تدهور الأوضاع الأمنية؛ تحوَّل الأمر في بعض الحالات من تحركات للتعبير عن الرأي إلى أحداث سلبٍ ونهبٍ للممتلكات وترويع المواطنين في عددٍ من المناطق، واعتداءات مباشرة، سبقتها حوادث قتلٍ وتعدٍّ على عددٍ من الثوار. وهناك حالات عنف واعتداء على النساء بصورة غير معهودة.
لقد رأينا كيف كان الثوار يقابلون بطش النظام البائد وأدواته القمعية بالسلمية التي انتصرت، لكن ما يحدث الآن لا يشبه الثورة ولا الثوار، ومن الجيد أن الثوار الحقيقيين انتبهوا لما يحدث، وقد تصدَّت لجان المقاومة الحقيقية لمحاولات تشويه صورتهم وعملوا على تصحيح الأوضاع والمشاركة في استتباب الأوضاع الأمنية، ونحن ندعوهم لمواصلة ذلك المجهود، فنحن مؤمنون أن السند الحقيقي لحكومة الفترة الانتقالية هم هذه الجماهير.