غريب أمر شعبنا العاطفي لدرجة التنازل عن الحقوق.
فبعد نحو عامين من تشكيل حكومة الثورة، ومع المعاناة التي بلغت مستويات غير مسبوقة في تاريخ السودان لا يزال المثقف السوداني أسيراً لهذه العاطفة اللعينة.
من يتابع التفاعل مع خطاب رئيس الحكومة الأخير يظن أن جزءاً مقدراً من مشاكل البلد قد حُل، وأن الرجل وفر لهؤلاء الغلابى والكادحين الكهرباء والماء والخبز والدواء والأمن، وحسم كل المخربين والمتفلتين واستعدل الكثير من الصورة المقلوبة (داخلياً).
لم يفعل حمدوك شيئاً يستحق كل هذا التهليل والفرح والحبور.
فقد نطق بعبارات وكلمات لم تكن هذه المرة الأولى التي نسمعها فيها لو لا هذه الذواكر المثقوبة.
وإن عدنا بالذاكرة للوراء قليلاً لأدركنا أنه قال الكثير مما سمعه الناس بالأمس في خطابه الأول بعد تنصيبه رئيساً لحكومة الثورة.
فما الذي تحقق مما وعد به في ذلك الخطاب وما تلاه من لقاءات وخطابات!!
لا شيء بالطبع سوى اللهث المستمر وراء تسليم رقابنا للآخرين والرضوخ لوصفات المؤسسات الدولية ورهن سيادتنا للآخرين والتهاون مع الفلول والمفسدين والإذعان لإرادة العسكر حتى في القضايا التي تعتبر من صميم عمل الشق المدني في الحكومة (اتفاق سلام جوبا المفخخ نموذجاً).
والمحزن أن أكثر السودانيين تهليلاً وطرباً بخطاب رئيس الوزراء من المثقفين والمستنيرين الذين يفترض أن يتعدى فهمهم للأمور مجرد العبارات المعسولة والوعود المتكررة التي تمتليء بها خطابات حُكام هذا الزمن الأغبر دون أن يُنفذ منها شيئاً.
” خطاب متوازن” ” رجل صادق وشفيف” ” أثبت أنه مدرك لكل ما يجري ولا يجلس في برج عاجي”، هذا بعض ما قرأناه وسمعناه منذ أن أنهى دكتور حمدوك خطابه.
ولا أدري ما الذي كان يتوقعه القوم في خطاب لرئيس حكومة يأتي في توقيت بالغ الصعوبة وحالة غليان وسط أفراد الشعب العاديين وتتريس (غير مبرر) للشوارع.
هل توقعت يا مثقف يا سوداني يا واعي أن يخاطبك رئيس حكومتك في هذا الوقت بإنفعال ولغة واجفة وينكر المشاكل والأزمات المتلاحقة التي لا تخطئها عين أصغر طفل في هذا السودان!!
الطبيعي والمنطقي و(الذكي) أن يُخرج خطاب حمدوك بالشكل الذي سمعناه.
فالرجل لا هو نافع ولا هو اللمبي ولا البشير.
أعني أنه ليس غبياً لدرجة أن يتهور، أو يقول كلاماً يستفز الشارع في مثل هذا الوقت العصيب.
إذاً كان لابد أن يخرج حمدوك على الشعب بمثل هذا الكلام المنمق الجميل الذي يتضمن اعترافاً واضحاً ببعض المشاكل والأزمات التي تعانيها حكومته وقوى الثورة التي أتت به.
” اعترف الرجل بما تعانيه قوى الثورة من تشرذم وانقسامات”، لا بالله!
فهل كنا نتوقع أن ينكر هذه الحقيقة الأوضح من شمس الضحى في كبد السماء!!
سمعنا كلاماً جميلاً نعم، لكن ما الذي جنيناه نحن كشعب من مثل هذا الكلام المنمق حتى نهلل ونفرح بهذا الشكل الهستيري!!
هل حسم لكم خطاب حمدوك أمر الأموال المستردة التي ينكر وزير المالية استلامها، فيما يؤكد عضو لجنة التفكيك وجدي وصولها للوزارة!!
هل قدم حمدوك التزاماً بتوقيت زمني محدد لتشكيل المجلس التشريعي الذي أشار لغيابه حتى اللحظة!!
هل أعلن عن محاسبة أي كائن ممن تهاونوا وتقاعسوا عن أداء مهامهم في حكومة الثورة التي كان من المفترض أن تكون أكثر حسماً في الكثير من الأمور والقضايا!!
هل أوقف الانفاق الزائد للمسئولين في بلد تضيق فيه سبل العيش على المواطن كل يوم، بل كل ساعة!!
هل اعتذر عن الكثير من الوعود السابقة التي لم يُنفذ منها شيئاً!!
وهل.. وهل.
مشكلتنا في هذا البلد أننا نتخلص من دكتاتور لنصنع دكتاتوراً جديداً.
قوى الثورة متشرذمة ومتخاذلة وخانعة..
والشق العسكري في الحكومة يتصرف كما يحلو له..
وقادة بعض الحركات المسلحة التي وقعت على اتفاق جوبا المفخخ غير مكترثين بمعاناة من ظلوا يتحدثون باسمائهم على الدوم.
وبعضنا ما زالوا يتشبثون بكل كلمة (حلوة) تخرج من فم رئيس وزراء أتت به قوى الثورة المتشرذمة نفسها.
لا ننكر أن الوضع بالغ التعقيد.
ونقر بأن اليد الواحدة لا تصفق، هذا إن افترضنا أن الدكتور حمدوك هو أفضل الأخيار في هذا البلد وأنه هبة السماء للسودانيين.
لكن ما هو البرنامج الذي قدمه حمدوك منذ تنصيبه رئيساً للحكومة لحل مشاكل اقتصاد البلد وأزمات السياسة التي لا تحصى ولا تعد!
لا يكفي أن نطلق العبارات الرنانة، وأن تلهج ألسنتنا بشكر حمدوك دون أن نسائله عن عدم تحقيق ما يطلقه من وعود بين الفينة والأخرى.
لم يُقدم حمدوك بالأمس كشفاً بما جُمع في حملتي ” جنيه حمدوك” و” القومة للسودان” أو يبين أوجه إنفاق تلك الأموال!!
ولم يُقدم إحصائية بعدد من عُينوا في الوظائف الحكومية عبر مفوضية الخدمة المدنية، بدءاً بمكتبه وانتهاءً بأصغر مؤسسة في الدولة!!
. ولم يتحمس لتغيير العملة، الخطوة التي كان من شأنها أن تعين كثيراً وتساهم في استعادة الكثير من الأموال المنهوبة منذ الأسابيع الأولى لتشكيل هذه الحكومة.
كل ما فعله أنه عزف على أوتار العاطفة (لعل) بعض مثقفي هذا البلد يجدون فيها خبزاً وماءً ووقوداً وأمناً وأماناً ودواءً. .
.الثورات لا تحل المشاكل بين عشية وضحاها لكنها تحسم الكثير مما قامت لأجله وتهيء الظروف للبناء والتعمير والانتاج، لكن حمدوك كان ومازال يرص الكلمات ليفرح البعض، بينما تزداد السفينة غرقاً كل يوم.