(وجدت بين أوراقي كلمة نسيتها عن سيداو نشرتها في “الصحافي الدولي” نحو ٢٠٠٠ في بدايات المعركة حول توقيع السودان على هذه الاتفاقية الدولية لمحاربة أشكال التمييز ضد المرأة. وتصادف أنني نشرت كلمة منذ يومين عن سيداو وجدتها اتفقت مع الكلمة القديمة في وجوب أن نأخذ بعين ناقدة مفتوحة الاتفاقات الدولية التي تستقي غالباً من معايير الغرب وكسبه وخبرته. وهو نقد يتجاوز نفرة المحافظين منها (أو وسوستهم) وبيعة الحداثيين لها لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا. ولو كنت كتبت هذه الكلمة اليوم لضفت اعتذار المانيا القريب عن التطهير العرقي لشعب ناميبيا (جنوب غرب أفريقيا) خلال استعمارها له في أوائل القرن العشرين).
تدور رحى الجدل عندنا حول التوقيع على اتفاقية أخرى غربية المنشأ هي الاتفاقية الدولية لمحاربة كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو). لم اتوافر بعد على دراسة الاتفاقية ولا أعتقد أنني سأجد ما ينفر منها. فهي قد تكون، كما يقول مؤيدوها، “لمامة” للمعروف من مواثيق حملت حساسية العالم الجديدة تجاه المرأة، أو إعادة إنتاج لها. وسيكون من قلة الحيلة أن نحْمل الإسلام، مستودع خبرتنا الأساسية للنظر للمرأة، للاحتجاج على سيداو باسم أنها فرض غربي، أو لذم سخائها حول المرأة لأنه لا يتفق مع تقاليدنا. فسَوق الإسلام إلى مصادمة سيداو حيلة عجز ظللنا نراوح بها في مكاننا حيناً طويلاً متوجسين من العالم، منقطعين عن الخوض في السياسات المعاصرة التي تتولد عن الابتلاء الإنساني. وقد بررنا هذه المراوحة، أو خطوات التنظيم، باسم توقي كيد الغرب، أو بزعم أن تقاليدنا قد وسعت هذه الحساسيات أصلاً فلا “بغر” ولا اجتهاد.
أذكى من حيلة العجز هذه أن نتقن نقد الغرب الذي لم يستضعفنا فحسب، بل ظل يربكنا عن حقنا وحقائقنا وعن حقه وحقائقه. فنزداد ضعفاً وعزلة. والباب المفضي لنقد الغرب هو أن ننزل مواثيقه التي يعرضها علينا فتغيظنا في سياق تاريخ الأوربيين الأساسي. ومن أميز ما سمعت عن نقد الغرب هو مقال للدكتور حسن الترابي عن مواثيق الغرب حول حقوق الإنسان اتفقت معه أو لم تتفق. فقال إن الغرب وحده ربما احتاج إلى هذه المواثيق لأنه، بغيرها، كيان وحشي لا تعصمه دون استئصال واسترقاق الآخرين (بما في ذلك المرأة الغربية) عاصم من دين. فهذه المواثيق التي يؤلفها الغرب هي دين الغرب المدني بعد أن فات عليه أن يستنبط من أقباس دينه العلائق ما بينه وهؤلاء الآخرين.
فمن رأي الترابي أنه مهما أخذنا على شريعة الإسلام من وجوه النقص ففي الإسلام فقه رفيق يبوب الحياة المدنية بين المسلمين من جهة، وبينهم وبين غير المسلمين على عروة تحقن الدم، وتفصل الحقوق والواجبات بوجوه قد ترضي وقد لا ترضي. وهو فقه خلا منه الغرب وهو يستأصل البدائيين في الأراضي الجديدة، ويحشو السفن بالعبيد حشو الكبريت يمخر بها عباب الأطلنطي، أو يستعمر العالم الثالث فينفذ بالإهانة إلى جوانح العقل والروح فيه.
يصيب الغربيون خجل عظيم من كل هذه الوحشية التي تنغص عليهم ضميرهم المبتكر الجديد. وقد رأينا اعتذاراتهم تترى ذات اليمين واليسار حتى أصبح طلبهم العفو من ضحاياهم سياسية مقررة. وربما صدقت كلمة الترابي على بينة سياسات الاعتذار الغربي الرسمية السائدة. فلو كان عهد الغرب الديني مسؤولا لما تورطوا في الغلو والشطط تورطاً أوجب الاعتذار اللاحق.
ومن أبواب الاعتذار الغربي ما التمسته النرويج من جماعة من ضحاياها في برنامج شهدته على محطة الآي بس سي الأمريكية. فقد اعتذرت النرويج لجماعة من النساء والرجال ولدوا خلال احتلال المانيا النازية لها. وهذه الجماعة ثمرة فكرة نازية في هندسة البشر ترمي لإنتاج أرقى ما يمكن أن يُستولد من الجنس الأوربي وهو الإنسان الآري الذي ستؤول له دبارة العالم. واختار النازيون لتلك الغاية بنات نرويجيات شقراوات خضر العيون ليفحلهن جنود المان بموصفات في الطول والشقرة وصفاء النسب مما هي شروط في طلائع الجنس الآري. وكان استيلاد هذه الطلائع سياسة نازية عامة شقي بها رجال ونساء في النرويج.
الذي استدعى اعتذار النرويجيين هو أنهم عاملوا هذه الطلائع بقسوة وجفاء بعد القضاء على “والدهم” النازي أي بهزيمة المانيا. فاشتطت بالنرويجيين المشاعر الوطنية حتى رفضوا أن يقبلوا بهم كمواطنين عاديين في بلدهم. كما أهانوا أمهات الطلائع حتى أنكرن من ولدنهم للجنس الآري من أصلابهن وهربن بعارهن. وتبنت أسر نرويجية بعض تلك الطلائع إلا أنه شددت عليهم النكير في تربيتهم لتطرد الشيطان الألماني من أجسادهم. وشخّصت الحكومة حالة بعضهم كعصابية فأخذتهم إلى مستشفى أعصاب في أحد جزر البلاد. وقالت واحدة من طلائع ذلك الجيل وهي تتنخنخ: “لا أدري هل ألوم هتلر أم ألوم أهلي النرويجيين الجفاة”. وقال ممثل آخر للجيل إنه ظل ينتظر عودة والده الألماني طوال طفولته وشبابه وإلى يومه ذاك. وقال إنه كان يحب السيارات وظل ينتظر قدوم والده راكباً سيارة.
ربما لطف جدلنا حول ما يأتينا من مواثيق الغرب (وهو جدل ظل يقسمنا شيعاً للحداثة وشيعاً للتقليد) أن نتعلم نقد الغرب.، وأن نأخذ، أو لا نأخذ، ما يأتي منه بوعي بتاريخه في محنته الطويلة مع الآخر. ويصح أن نرتدف وعينا بتاريخنا بهذا الوعي بتاريخ الغرب لكيلا نكون أسرى لأي من الوعيين على انفراد.
IbrahimA@missouri.edu