قال أحد الفلاسفة: (إذا لم تكن قلقاً ومنزعجاً فأنت لا تملك المعلومة) (If you are not confused you are misinformed).
بهذه المقدمة فأنا أشعر بالقلق بعد سماع خطاب د. حمدوك الثلاثاء الماضي حين استوقفتني كلماته: (لقد رأيتم ما آلت اليه الأمور في الأيام الماضية من أجواء تنذر بالفوضى، وإدخال البلاد في حالة من الهشاشة الأمنية وبلادنا مهددة بالدخول في حالة من التشظي والإنقسام، بسبب تدهور الأوضاع الأمنية.. تحول الأمر في بعض الحالات من تحركات للتعبير عن الرأي إلى أحداث سلب ونهب للممتلكات وترويع المواطنين في عدد من المناطق، واعتداءات مباشرة سبقتها حوادث قتل وتعدِ على عدد من الثوار، وهناك حالات عنف واعتداء على النساء بصورة غير معهودة.. يجب أن يبتعد الشباب عن كل ما يجرهم نحو العنف، التدهور الأمني الآن يعود بالأساس للتشظي الذي حدث بين مكونات الثورة والذي ترك فراغاً تسلل منه أعداؤها وأنصار النظام البائد.. السودان يواجه ظروفاً قاسية تهدد تماسكه ووحدته وينتشر فيها خطاب الكراهية وروح التفرقة القبلية.)
اخطر ما في حديث د. حمدوك تخوفه من تفشي النزاعات بين المجموعات السكانية وقيام حرب أهلية، وخطورة حديثه تأتي أيضاً عندما استدرك قائلاً: (هذا الخطر لن يهدد بلادنا فحسب بل سيجر كل الإقليم إلى حالة من عدم الإستقرار، فأي تهديد للإستقرار في بلد مثل السودان سيمثل حالة نوعية فريدة لم يسبق لها مثيل على مستوى العالم). انتهى..
خطورة هذا الحديث من الرجل التنفيذي الأول في البلاد تعيدنا إلى حكمة الفيلسوف في صدر هذا المقال، لأنه حديث يأتي من شخص يملك المعلومة الكاملة ببعديها الداخلي والخارجي. ما ذكره من أن ما سوف يحدث في السودان سيؤثر مباشرة على تهديد السلم والأمن الدوليين مما يحتم على المجتمع الدولي ممثلاً في مجلس الأمن إحالة السودان كله تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، في الماضي كان إقليم دارفور وحده تحت الفصل السابع مما استدعى التدخل الأممي العسكري بقوة عسكرية تفوق الـ(25 ألف جندي) أممي وإشارة د. حمدوك واضحة جداً أن السودان كله- أكرر كله- سيكون تحت الفصل السابع الذي يسمح بالتدخل المباشر العاجل من قوات أممية كثيرة العدد والعتاد تضع السودان تحت الوصاية والسيطرة الدولية، وذلك في حالة حدوث التدهور الأمني الشامل والذي يراه د. حمدوك قريب الحدوث في ظل ما لم يذكره من معلومات وتحركات داخلية.
حديث د. حمدوك صادق من القلب خاصة عندما ذكر: (أُتهمت بالضعف وعدم المواجهة)، وكأنه يقول أنا لست ضعيفاً ولكني أرى ما لا ترون.
المسألة الآن أصبحت بالغة التعقيد والخطورة الأمر الذي استدعى رئيس البعثة الأممية الإدارية الأمنية تحت الفصل السادس مستر فولكر إلى عقد مؤتمر صحفي سبق خطاب د. حمدوك قال فيه: إنه يجب على الأحزاب السياسية في الحكومة والمعارضة والمكونات الإجتماعية الوصول إلى تطوير رؤية مشتركة حول القضايا المصيرية والدستورية بالبلاد، وأعلن عن مساعدته وتدخله لوضع خارطة طريق لتشكيل جيش وطني واحد يأتمر بأمر الدستور، ما يعني جيشاً قومياً واحداً لا يحكم لأن الدستور سيكون دستوراً لحكم مدني ديمقراطي، وتدخل فولكر بصورة مباشرة في نقد الحكم الإنتقالي الهجين- مدني-عسكري- معبراً عن قلقه في التأخير في تنفيذ الإتفاقيات، مثل عدم قيام المجلس التشريعي وعدم تنفيذ الترتيبات الأمنية وفشل المباحثات مع الحركة الشعبية قطاع الشمال- عبد العزيز الحلو.
مما تقدم نلتقط إشارات واضحة في خطاب د. حمدوك:
أولاً: المكون المدني يتحمل جزءاً كبيراً من الهشاشة الأمنية وذلك بعد التصدع الكبير في حاضنة الثورة التاريخية، وذلك بخروج الحزب الشيوعي من قوى الحرية والتغيير وخروجه من تجمع المهنيين وتكوين جناح منفصل، ثم خروج حزب الأمة.. ما زاد التصدع إتفاقية جوبا أكتوبر 2020 والتي أدت إلى تكوين حكومة جديدة غير متجانسة، ثم تكوين حاضنة جديدة للثورة تحت مسمى مجلس الشركاء الذي ضم فصائل الكفاح المسلح، وبتكوين مجلس الشركاء فقدت حكومة د. حمدوك السند القوي بعد أن أصبحت الغالبية في مجلس الشركاء أكثر ميلاً نحو مكون الثورة العسكري.
عملياً الآن د. حمدوك في مجلس الوزراء الجديد يفقد السيطرة والتحكم على 75% من الوزراء الذين يدينون بالولاء التام لأحزابهم – الأمة والبعث- وفصائل الكفاح المسلح- العدل والمساواة، حركة تحرير السودان- مناوي- والحركة الشعبية قطاع النيل الأزرق-، حتى المجلس السيادي صار بتكوينه الجديد أكثر بعداً من شعارات ثوار ديسمبر 2018، وما الهجوم المستمر من غالبية الوزراء وأعضاء المجلس السيادي ومجلس الشركاء على لجنة تفكيك نظام الإنقاذ- رأس الرمح في تحقيق أهداف الثورة- إلا خير دليل على مفارقة مكونات الحكم الإنتقالي الجديد لشعارات وأهداف ثورة ديسمبر.
ثانياً: ركز د. حمدوك في خطابه على أن السودان قد تتحول الأوضاع فيه إلى حروبات أهلية بسبب الخطاب العنصري المتنامي هذه الأيام، وبداية شرارة الحروبات هذه بالمواجهات القبلية المسلحة في كردفان، دارفور، الشرق (كسلا وبورتسودان)، مضيفاً أن ما سيحدث يشكل تهديداً للسلم والأمن العالمي يعقبه فوراً تدخل عسكري أممي في كل السودان، وخطورة هذا الحديث أنه يأتي من المسؤول التنفيذي الأول في البلاد والذي يملك المعلومة بأبعادها الداخلية والخارجية.
ثالثاً: مما تقدم فإن الصورة قاتمة ومزعجة تتطلب العودة السريعة إلى وحدة وتماسك قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين، تحديداً يجب على الحزب الشيوعي والتجمع الإتحادي والمؤتمر السوداني السمو فوق الخلافات المرحلية والعودة إلى مرحلة ما قبل الثورة ديسمبر 2018 حتى أبريل 2019، والتي قادت الثورة قبل تكوين قوى الحرية والتغيير في يناير 2019- بمعنى آخر إعادة تكوين الحاضنة التاريخية كداعم للمكون المدني برئاسة د. حمدوك مواز لمجلس الشركاء بعد الخروج منه.
رابعاً: تعود الحاضنة التاريخية إلى دعم د.حمدوك والترحيب والتعاون مع البعثة الأممية برئاسة الألماني فولكر، والتي تريد وتخطط لدعم التحول الديمقراطي والحكم المدني وإلى انتشال السودان من وهدته الاقتصادية، يجب على بعض فصائل الحاضنة التاريخية تعليق شعاراتهم الآيدلوجية القديمة فاقدة الصلاحية مثل: (لن يحكمنا البنك الدولي) لأن البنك الدولي الآن في قلب معركة المجتمع الدولي في دعم الحكم المدني ومناهضة أي حكم عسكري في السودان.. البنك الدولي ومؤسسات التمويل الدولية بدأت فعلاً وبقوة في خطط انتشال السودان من مآلات التدهور الاقتصادي، بدأت في مراحل حذف الديون والإصلاح الجذري للاقتصاد بالرفع الكامل للدعم الشامل لكل المواطنين القادرين والمعسرين بصورة متساوية والإستعاضة عنه بالدعم المالي المباشر للفئات الضعيفة ودفعت (800 مليون دولار) لهذا الغرض في مشروع (ثمرات) الذي لم ينفذ بكفاءة عالية بسبب الضعف الإداري الداخلي.
خامساً: وأخيراً يجب على كل حادب على استقرار السودان خاصة حركات الكفاح المسلح بدء حملة إعلامية جادة وقوية لمحاربة وشجب أي خطاب أو توجه عنصري قبلي، وذلك في كل المنابر الإعلامية والجماهيرية، الإتفاق على شعار نبذ العنصرية والجهوية هو الترياق المضاد لتشظي السودان والحكم الأممي الذي يُضيّع كل جهود وشعارات ثورة التغيير.